
بران برس - وحدة التقارير:
"سأعود حين تهدأ الأوضاع".. بهذه الكلمات التي تحمل في طيات حروفها كل معاني القهر والرجاء، ودّع "إياد" والدته، وغادر منزله الصغير في ريف محافظة إب (وسط اليمن)، يحمل في قلبه أملاً هشًا، مخبأً في عينيه دمعة لم يرد أن تفضحه، وهو لم يكن يعلم أنه لن يعود أبداً وأن هذه رحلته الأخيرة.
كان يعلم "إياد" أن التسلل عبر طرق التهريب إلى "الجارة" السعودية محفوف بالمخاطر، فقد لقي العشرات وربما المئات من اليمنيين مصرعهم وهم في طريقهم للتهرب للعمل في المملكة، لكنه كان يراهن على أن تمنحه الحياة فرصة صغيرة تحفظ له كرامته وتسد رمق عائلته التي أنهكتها الحرب.
لم يحمل "إياد" شيئًا في رحلته للاغتراب في السعودية بطريقة غير قانونية، سوى قنينة ماء وبعض الأمل. لم يمتلك حقيبة سفر، ولا متاعًا، ولا أوراقًا رسمية، فقط أحلام الفقراء الكبيرة التي تسير على أقدام مرتجفة فوق تضاريس الخوف.
مع رفاقه، سار لساعات طويلة في دروب وعرة لا يسمع فيها سوى صفير الريح ولهيب الشمس التي كانت تلسع وجوههم وتحرق خطاهم. وفي لحظة موجعة، انهار "إياد" تحت وهج الشمس. تمدد على الأرض، وبدأ جسده النحيل يذوب بصمت.
وفي لحظاته الأخيرة، لم يكن "إياد" يحمل سوى وجعه، مستلقياً على الأرض لا يقوى على الحركة، حاول رفاقه إسعافه ــ رشوه بالماء ــ أسندوه بأذرعهم المرتجفة، لكن الجسد المتعب استسلم، وظل "إياد" ممددًا تحت الشمس ست ساعات كاملة بلا حركة، حتى أسلم الروح دون وداع حقيقي.
في ظل غياب الحيلة والمساعدة، حفر له رفاقه قبرًا بسيطًا بين الصخور، وألقوا عليه حفنة من التراب، ثم غادروا، والدموع تتقاذفهم إلى مصير لا يقل قسوة عن مصيره.
وفي قريته البعيدة، كان والد "إياد" يتعافى بالكاد من جلطة دماغية، ووالدته تنتظر عودته، تتمسك بوعده الهش: "سأعود حين تهدأ الأوضاع" كما وعدها، ولكن بدلاً من ذلك، وصلهم النبأ الصادم: "ابنهم دُفن هناك، في مكان مجهول، يقال إنه "أبو عريش".
رحل "إياد"، وبقيت أسرته تصارع وجع الفقد المجهول، لا يريدون شيئًا مستحيلاً، فقط يطالبون باستعادة جثمانه، ليدفنوه كما يليق بإنسان أحب الحياة، ومات وهو يحاول النجاة منها.
بصوت مبحوح من الألم، ناشدت أسرته السفارة اليمنية في الرياض، وزارة المغتربين، وزارة الخارجية، وكل قلب حي: "ساعدونا على استعادة ابننا... ساعدونا على أن يُدفن تحت تراب يعرفه، وتُكتب على قبره آية رحمة، لا أن يظل مجرد رقم منسي في سجلات الفقر والحرب".
إياد لم يكن مجرد شاب فارق الحياة على سفح جبل؛ كان مرآة آلاف اليمنيين الذين تموت أحلامهم كل يوم بعيدًا عن الكاميرات، بلا ضجيج، بلا نعي، بلا عزاء، في وطن مستنزف بالحروب والمآسي، بات الوداع رفاهية، والحياة حلمًا، والموت خبرًا عابرًا على هامش الأيام.