|    English   |    [email protected]

البعد الخارجي في الحرب والسلام في اليمن.. هل تلوح الفرص؟

السبت 28 يونيو 2025 |منذ 7 ساعات
د. عمر منصر

د. عمر منصر

منذ انقلاب جماعة الحوثي في سبتمبر 2014، بدأ اليمن يشهد انهيارًا تدريجيًا لمؤسسات الدولة، وطيًّا قاسيًا لتجربته الفريدة التي كانت قد انطلقت في مسارات التنمية والانفتاح السياسي والحريات، لا سيما إذا ما قورنت بمحيطه العربي الأقرب. غير أن الحرب التي اندلعت لم تكن شأناً داخلياً خالصًا، فالبُعد الخارجي شكّل منذ البداية ركيزة محورية في معادلة الحرب والسلام، وظل مؤثرًا ومتغيرًا حاسمًا على امتداد سنوات الصراع.

عملت جماعة الحوثي مبكرًا على تخطي حدود اليمن لتنسج علاقة مع طهران، ليس فقط على أساس الدعم السياسي أو العسكري، بل بوصفها امتدادًا فكريًا وأيديولوجيًا لمشروع “الولاية” والثورة الإسلامية. وقد استلهمت الجماعة من إيران، إلى جانب الإرث الإمامي في الفكر والسلوك، بنيتها العسكرية، وخطابها الإعلامي، وشعاراتها المعادية، فضلًا عن الدعم اللوجستي في مجالات التدريب والتصنيع الحربي.

نتيجة لذلك، انحرفت بوصلة السياسة الخارجية لليمن، ليجد نفسه في قلب حرب مدمرة وعزلة دولية متزايدة، أدّت إلى تراجع حضوره العربي، وخروجه من محيطه الخليجي، واصطفافه ضمن علاقة طرفيه مع إيران على حساب محيطه الطبيعي. لم ينعكس هذا الانزياح على الداخل فقط، بل حمّل الإقليم والمنطقة أعباء أمنية واقتصادية خطيرة، خاصة على خطوط الملاحة البحرية. و هكذا غدت معادلة الحرب والسلام في اليمن شديدة التشابك، لا سيما في ظل التطورات الإقليمية المتسارعة، بدءًا من حالة التقارب الإيراني-السعودي، مرورًا بحرب غزة في السابع من أكتوبر 2023، وصولًا إلى الأهم والأخطر: الحرب الإسرائيلية-الإيرانية. ونظرًا لأثر هذه التحولات العميقة على مستقبل السلام في اليمن، بات من الضروري قراءة المسألة اليمنية ضمن ثلاثة مستويات مترابطة.

المستوى الإقليمي

شهدت العلاقات السعودية-الإيرانية موجات من الشدّ والانفراج، كان أبرزها اتفاق بكين في مارس 2023، الذي مهّد لانسحاب سعودي تدريجي من المشهد اليمني. لم يكن هذا الانسحاب نتيجة لقناعة راسخة بحل سياسي وشيك، بل جاء كجزء من مجموعة تفاهمات مع طهران، في إطار إبداء حسن النية وتخفيف التوتر الإقليمي. وفي هذا السياق، نفذت الرياض ما يمكن وصفه بـ”ضربة دبلوماسية استباقية”، هدفت من خلالها إلى سحب الذرائع من يد إيران وتحييد ردودها المحتملة على المصالح الخليجية والغربية، في حال اندلاع مواجهة مباشرة مع إسرائيل، كما شهدنا في الأيام الأخيرة.

وعلى الرغم من مظاهر الانفتاح النسبي تجاه الحوثيين، إلا أن السياسة السعودية إزاء التهدئة تبدو جزءًا من توجّه استراتيجي أوسع، تشكّل ملامحه منذ ما بعد أحداث الربيع العربي. هذا التوجه يقوم على تهدئة شاملة تهدف إلى تركيز الجهود على المشاريع الاقتصادية والتنموية، والأهم من ذلك، احتواء إيران عبر الأدوات الدبلوماسية، وتجنّب الانزلاق إلى مواجهة عسكرية مباشرة أو التورط في تحالفات عسكرية ضد ايران، كما يحدث حاليًا. ويأتي هذا الإدراك في ضوء تجربة الرياض الطويلة في حرب اليمن، حيث بدت مكشوفة أمنيًا، ولا تزال تفتقر إلى الضمانات الكافية من حلفائها الغربيين، الأمر الذي دفعها إلى إعادة ترتيب أولوياتها، وتغليب أدوات التهدئة والدبلوماسية على نهج المواجهة والانخراط المباشر في الصراعات.

المستوى المحلي 

منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023، خرج الحوثيون من إطارهم المحلي إلى دائرة التأثير الدولي، مستغلين موقعهم الجغرافي الاستراتيجي للعب ب“ورقة البحر الأحمر” و "تجريب الصواريخ المهربة او المطورة بخبرات إيرانية"، وقد شكّل هذا التحول منعطفًا حاسمًا، أدّى إلى دخول إسرائيل طرفًا مباشرًا في الصراع، إذ باتت ترى في الجماعة تهديدًا متقدّمًا ضمن منظومة أذرع إيران الإقليمية. 

ففي حال سقط النظام الإيراني أو تم تدمير قدراته العسكرية، سيجد الحوثيون أنفسهم أمام أحد خيارين: إما مواجهة ضربة قاصمة من خصومهم الإقليميين والدوليين، أو الدخول في عزلة خانقة بعد فقدان الدعم اللوجستي الإيراني، وربما حتى تخلي طهران عنهم ضمن صفقة سياسية.

 المستوى الدولي

لم يعد اليمن، في نظر الولايات المتحدة والغرب، مجرّد ملف متصل بمكافحة الإرهاب في جزيرة العرب أو بدعم البلد كتجربة ديمقراطية ناشئة كما كان عليه الحال في العقدين الماضيين، بل عاد ليُدرج ضمن ملفات الأمن الإقليمي والدولي بامتياز. فقد تحوّل الاهتمام الغربي باليمن إلى معادلة طردية ترتفع وتنخفض تبعًا لأهمية منطقة الخليج في حسابات واشنطن. ومن خلال بوابة أمن الخليج وضمان سلامة الممرات البحرية، استعاد اليمن زخمه الدولي، ولكن هذه المرة باعتباره ملفًا من ملفات الأمن الإقليمي والدولي، لا أكثر.

ومع تزايد الهجمات الحوثية على السفن في البحر الأحمر، تحت مبررات عدة، منها “نصرة غزة”، تصاعدت المخاوف العالمية من تهديد مباشر للملاحة الدولية، ليعود اليمن إلى واجهة الاهتمام الدولي، لا بوصفه ساحة حرب أهلية، بل باعتباره “مشكلة امنية دولية” تتطلب تدخلا عاجلا.

أما الصين وروسيا، فلهما قراءة مختلفة وإنْ لم تخرج عن مدار مصالحهما مع دول الخليج. ينصبّ اهتمامهما على ضمان استقرار تدفق الطاقة وحماية قنوات نفوذهما المتنامي في المنطقة. لذا، تتعاملان مع التصعيد الحوثي بحذر بالغ، تحسبًا لأي اضطراب قد ينعكس على مصالحهما الاقتصادية أو يخلّ بتوازناتهما الجيوسياسية في الخليج.

الفرص من هذا كله؟

في ظل الانكفاء الإيراني واستدارة نظامه إلى الداخل في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل، في حربٍ تُجسّد المثل القائل: “تمادى الحبل، وجاء من قَطَعه”، تلوح في الأفق فرصة سانحة لتنفيذ عملية عسكرية خاطفة في مدينة وميناء الحُديدة. خطوة كهذه قد تخنق الشريان الحيوي الذي تعتمد عليه جماعة الحوثي في تهريب السلاح وتمويل الحرب، وتعيد خلط الأوراق ميدانيًا وسياسيًا قبل أن تستعيد الجماعة توازنها وتعيد ترتيب صفوفها على وقع المتغيرات الإقليمية المتسارعة.

ومع ذلك، لا يُعد الخيار العسكري المسار الوحيد المتاح. إذ لا تزال هناك مساحة للمناورة الدبلوماسية عبر وسطاء إقليميين، وعلى رأسهم سلطنة عُمان، لإيصال رسائل واضحة وحازمة إلى جماعة الحوثي، مفادها أن الإصرار على إبقاء السيطرة على مدينة الحُديدة ومينائها الحيوي قد يعرّضها لهجمات متكررة، ليس من إسرائيل فحسب، بل أيضًا من قوى غربية باتت تنظر إلى الجماعة كتهديد مباشر لأمن الملاحة الدولية واستقرار خطوط التجارة العالمية.

وأخيرًا، وإن لم يُفضِ استرجاع الحديدة إلى مكسب فوري في مسار السلام الشامل، فإنه يبقى خطوة تعبّر عن قدر من المسؤولية الوطنية، تهدف إلى حماية ما تبقى من مؤسسات الدولة وبنيتها التحتية، وتجنيبها موجات دمار متجددة باتت، على ما يبدو، أكثر احتمالًا في الأيام المقبلة.