|    English   |    [email protected]

مأرب والتاريخ والوعي بالذات

الاثنين 23 ديسمبر 2024 |منذ 4 أيام
جمال أنعم

جمال أنعم

هي اليمن، الأرض المهد، مبتدأ الحكايات العاطرة، والحضارات الغابرة، وبلد الممالك والملوك، وموطن الديانات والأسرار، ومهوى الرحالة المستكشفين عبر العصور، ووجهة الجغرافيين، بدءاً من العرب والمسلمين مثل المسعودي وابن بطوطة وابن حوقل، وناصر خسرو، وياقوت الحموي، الذين كتبوا عن تاريخ وجغرافيا البلدان، إلى الأجانب في عصور متقدمة كالدنماركي كارستن نيبور، والفرنسيين أرنو وهاليفي، والنمساوي جلاوزر، إلى عبد الله فيلبي، وصولاً الى البعثات المؤسسية عبر المعاهد الآثارية المهتمة.
    
وتجيء البعثة الدنماركية في ١٧٦٢  المعروفة ببعثة نيبور بتوجيه من الملك فريدرك  الخامس، وكارستن نيبور هو المساح الدنماركي الشاب ورفاقه  الخمسة هافن وبتر فورسيكال والطبيب كارل كرايمر والرسام جورج فيلهلم، ومعهم طباخهم والذين قضوا تباعًا  خلال الرحلة  متأثرين بالأوبئة والأمراض وبظروف السفر وصعوبات واقع الحال في ذلك الزمن الغابر. ولم ينج منهم سوى نيبور وكان من وراء هذه البعثة الباكرة دوافع دينية تتعلق بصلة اليمن بما جاء في "الكتاب المقدس "، وإعادة تسمية الكثير من الأمكنة والرموز والحيوانات والطيور وغيرها لمقارنتها بما جاء في التوراة والعهد القديم.

توالت بعدها البعثات وتداخلت الأسباب والبواعث، وتسابقت كبريات الجامعات والمجامع الأوروبية ضمن التوجهات الإستشراقية والاهتمامات المؤسسية بما عرف بعلم الساميات في إرسال الباحثين والمستكشفين إلى اليمن، نجم عن ذلك اكتشاف الكثير من المواقع الآثارية ونقل وتصوير المئات بل الآلاف من النقوش والعثور على الكثير من اللقى النادرة  والتماثيل من أنحاء متفرقة في اليمن، سيما في مارب والجوف وشبوة بيحان وحضرموت وغيرها من المناطق المشهورة بآثارها وخرائبها  المطمورة تحت التراب. 

وهو ما شكل ثورة معرفية كبرى على مستوى العالم أجمع، مكنت من معرفة الكثير عن ممالك اليمن القديمة معين وسبأ وحمير وقتبان وأوسان وحضرموت، وفتحت الآفاق لقراءة تاريخ اليمن وعلاقتها بالعالم من حولها والوقوف على الثقل الحضاري الذي مثلته على كل المستويات.
إن  إعادة تلمس هذا المسار وتتبع الرحلات المتلاحقة يقف بنا  أمام الكثير من الحقائق الساطعة المتعلقة بالوجود والحضور والوعي بالذات اليمنية وامتداداتها التاريخية وتجذرها العميق وتواصلها المبكر مع العوالم وانفتاحها على كل الآفاق وحركيتها الملفتة وتجاوزها الحدود المرسومة في البواكير.

إن الإشتغال على هذه الخلفيات يبدو مهما في تكريس الوعي بالوجود المحوري والمركزي لليمن، ومارب خاصة وما انطوت عليه منذ القدم من العوالم والمعالم والآثار والأسرار والكنوز المخبئة.
كما أن مثل هذا الإشتغال سيعمل بكل تأكيد على تعميق  الوعي بالذات  والنظر إليها من خلال تتبع تلك الجهود المتواصلة والأسفار المضنية القاسية الباحثة عن اليمن منذ البدايات حيث تلوح كل تلك المغامرات سفرًا باتجاه الروح وبحثًا عنا وعن الغائب  والمجهول والضائع منا ومن تاريخنا الحضاري الممتد وهو ما يمنحنا رؤية أعمق ومنظورات أوسع للذات وللوجود وللدور، ولما يعنيه كل هذا الثراء والغنى والإمتداد. 

ومثل هذا الجهد سيسهم من دون شك في ترميم الروح والذاكرة الفردية والجمعية ومكافحة ما تحدثه الحروب عادة من تصدعات وشروخ وتشوهات نفسية وعقلية واضطراب في رؤية الذات لنفسها ولعلاقتها بواقعها ومحيطها وماضيها وحاضرها والمستقبل. كما سيكون من شأن مثل هذا الإشتغال الوقوف على السياقات والظروف التاريخية لتلك الرحلات وسرد أهم القصص والحكايات والمخاطر والتحديات والصور المأخوذة للواقع والناس وأنماط الحكم والحكام والحياة ومستويات القطيعة والإنقطاع والعلاقة بالآخر وبالعالم الخارجي بصفة عامة.

ومن المهم في هذا السياق تناول أهم المآخذ والملاحظات والانتقادات حول تلك الرحلات، وما أسفرت عنه من نتائج ودراسات وإدراك طبيعة تلك البعثات فردية ومؤسسية بلدانها ووجهاتها وتوجهاتها البحثية والجهات الراعية. وكذا الوقوف على أهم الأدوار التي أسست لعلم الآثار  في اليمن وأسهمت في إنشاء الكليات والجامعات والمراكز المتخصصة، وعملت على تأهيل  القدرات من خلال الدراسات والتدريب ودعم جهود الحفظ والحماية.

نحن نؤكد بمعاودة اهتمامنا بهذه المسارات والمواريث مسؤوليتنا الوطنية في تعهد هذا الميراث الهائل بحثا ودراسة وتنقيبا وجمعًا وحفظًا ورعاية وحماية وتكريس أهمية التواصل الخلاق. كما نتعرف بذلك على أولئك الرحالة المغامرين بتسليط  الضوء على أبرز تجاربهم وتفاصيل رحلاتهم وما مثلها على صعيد الخبرة الإنسانية.

وهو ما يخلق حالة من التواصل مع الدول والجامعات والمؤسسات المعنية، ويعيد فتح قنوات اتصال مع كل المؤسسات الفاعلة في هذا المجال، ويعزز استئناف التعاون المشترك، ومواصلة الإهتمام بالآثار اليمنية وحمايتها والتفكير ببرامج عمل مشتركة لخدمةً الآثار والحفاظ عليها من أعمال التخريب والتهريب والاتجار. وتنظيم الفعاليات والمؤتمرات والندوات المتعلقة بهذه الأبعاد عمومًا وبناء المؤسسات المختصة، وتأهيل المواقع الآثارية سياحيًا وتوفير المنح والفرص للدراسة والتدريب وغير ذلك مما يتعلق بهذا القطاع  الحيوي والهام والذي ما زال يعاني الكثير من الإهمال والقصور وعدم الإلتفات رغم أهميته القصوى ومركزيته وقيمته الحضارية والإنسانية وارتباطه بالروح والانتماء والوعي بالذات اليمنية ودورها وحضورها المتجاوز والممتد. 

هي أدوار أساسية من الخطأ أن تظل غائبة مهما كانت أولوياتنا في الصراع الراهن والذي يحضر فيه التاريخ كساحة مناجزة وكمحرك ودافع لكثير من الإشتباكات المشتعلة.

ومهم في هذا السياق ملء الفجوات داخل العقل والروح ووصل ما انقطع بيننا وماضينا ومد الجذور والصلات بكل روافد التكون والتشكل والتأسيس لوجود ثابت ومكين عصي على الاقتلاع يتقدم أبدا نحو الأمام بيقين بقاء شديد الرسوخ .