|    English   |    [email protected]

النضال الشمعي

الأحد 5 يناير 2025 |منذ يومين
جمال أنعم

جمال أنعم

هذه الشمعة تشعلني الليلة، تريني مذلات كثر و أوجهاً معتمة أخرى للمأساة، إنها الليلة تحرضني على العصيان والتمرد على سادة الظلام، تشعل داخلي ألف ثورة وألف حريق.

سيد الظلام يحل مشكلته، يقسم العتمة بين الحارات والمدائن، يوزع مشكلته بين حمَّالي المكاره، متكئاً على صبرهم الذي لا ينفد، هو يدري أن طاقتهم على تحمل انقطاع الطاقة لا تنقطع، هو يدري أنهم قد أسسوا حياتهم على الانقطاع، انقطاع كل شيء.. الماء، الكهرباء، الدواء، الغذاء، الأمن، الحرية، كل شيء ينقطع، لا شيء ثابت البتة غير الفساد واستمرار التدهور والانقطاع عن الحياة وعن ضرورات البقاء.

حين يؤسس المواطن حياته على فقدان حقوقه في الحياة الكريمة لا تعود هناك أمور أساسية، أو احتياجات مصيرية، ما هو أساسي يتراجع في قائمة الاهتمامات، يصير ثانوياً، يتولى الرضوخ والتسليم بالفقدان ردم الحاجة وتصعيد البديل الثانوي إلى صدارة الاهتمام.

تصير الشمعة هي الأساس، الفانوس هو الأصل، دبة الماء هي الضرورة، حبة البرمول هي المطلب، تغدو البدائل الترقيعية احتياجات أساسية أكثر ما تفعله أنها تسد حاجة الناس إلى إعلان الثورة.
نحن لا نحل المشكلة وإنما نسهم في استمرارها وتعاظمها من خلال ردات فعلنا السلبية هذه.

انقطاعات الكهرباء تخلق اليوم سوقاً استهلاكيا مقيتا يتغذى من سلبيتنا هذه، تمتلئ الأسواق الآن بفوانيس من كل نوع، تكتظ الجولات بباعة الفوانيس، ونحن نشتري وندرك أننا لا نشتري الضوء، وإنما نشتري العتمة الدائمة.

في كل ليلة يحل الظلام كاللعنة غليظاً سميكاً، مطبقاً على الأنفاس، يصفعك الظلام كل ساعة، يبول عليك، يغتصب لحظاتك النيرة، يجعلك تتضاءل، تنزوي وتنكمش، يحدد حركتك ورؤيتك، يريك كم أنت جبان ومهان، وراضخ ومدجن، ومروض على تقبل صنوف القهر والمهانات.

يسود الظلام فتنقطع النقاشات الملتهبة حول القضايا الكبيرة، تنطفئ المقولات العظيمة، تذوي الشعارات، ويبدو جهد التغيير في الفضاء الخاص والعام بقوة شمعة.

يبدو النضال السلمي كالنضال الشمعي، شمعة ذاوية في قلب ظلام دامس يفوق طاقة الرفض وطاقة التغيير.

قبل سنتين دهمتني ذات المشاعر، فكتبت بعضا من حكمة اللهب المتطاير من تلك اللحظة "شمعتان وثورة"، واليوم أكتب ثانية وقد اتسع الانقطاع على المنقطع.

يتم ترويضنا على تقبل كل هذه الأوضاع غير المقبولة عبر آليات عديدة، من المهم أن نلاحظها جيداً كي لا تصيب حساسيتنا بالعطب.

لا فرق بين ما تفعله وزارة الكهرباء ووزارة الإعلام في حياة من قبلوا بالقليل من كل شيء، القليل من الضوء والقليل من الحرية.

تتظافر أسباب القهر مجتمعة كي تصوغ الكائن القليل، الراضي بالقليل من الوطن، والأقل من حقوق المواطنة.

ربما علينا أن نكف عن إشعال شمعة ما دامت تبعدنا عن النور أكثر وأكثر، لسنا معنيين بحل مشكلة الحاكم، ليكن بديلنا اشتعال الروح، اشتعال السخط والغضب، لنكف عن صبر الجبان، وعن إطالة عمر الحلكة.

ليس علينا أن نتدبر أمورنا على هذا النحو الذي يعفي المسئول من المساءلة.

بالله عليكم من أين تأتي النداوة في مدن بلا ماء، من أين يأتي الإشراق في محيط غارق في الظلام الدامس، لا عجب أن تأتي الأفكار لاهبة، لا عجب أن تأتي المواقف حارقة، وحيث لا ماء تتعطش الأرض للغليان، تجف قلوب البشر، تجف ينابيع الحب، تجدب الأرواح، تكفهر الرؤى، يستحيل الأفق سراباً، يستثير العطاش للركض نحو العدم.

يجدر بقوى التغيير الالتفات إلى ما تفعله هذه الانقطاعات المستمرة لأسباب الحياة من هدم للروح، ونسف لليقين بجدوى التغيير واقتراب الخلاص وانبعاث النور.

ربما أطفأ انقطاع ساعة ما أشعلته الكلمات العظيمة في عمر.

القهر يتسرب من شروخ كثيرة، يمتد  عبر الأسلاك الخالية من الطاقة، و مواصير المياه الخاويةالصدئة،ومن خلال هذا الشقاء المستدام ،يتسرب عميقاً داخل الروح، يطفئ وهج الحياة، وروح المقاومة.

ربما علينا أن نكف عن إشعال الشموع داخل الغرف ربما علينا إشعالها في القلوب، لعلنا نخرج ثورة مشتعلة،  وطناً يرفض بقاءه منقطعاً عن الكبرياء وعيش الكرامة. 
 

* المقالة من عهد الشموع