التخادم القذر.. القاعدة وداعش تحت عباءة الحوثي

د. محمد العرب
في اليمن لا شيء يبدو كما هو..!
ما يُقدَّم على أنه صراع بين أطراف متنازعة، هو في الحقيقة توازن دموي دقيق بين قوى تتقاتل علناً وتتقاسم النفوذ سراً…؟
في مقدمة هذا المشهد المتداخل، يقف الحوثي كطرف يُفترض أنه في مواجهة دائمة مع التنظيمات الإرهابية بحسب أدبياته المعلنة ، لكنه في الواقع يتخادم معها في أكثر من ساحة، وأكثر من مستوى. هذا التخادم ليس مجرد صدفة ميدانية أو تقاطع مصالح مؤقت، بل هو جزء من استراتيجية أكبر تنفذها الجماعة الحوثية بتكتيك محسوب، تحت أنظار المجتمع الدولي المشغول بمكافحة الإرهاب من جهة، واحتواء إيران من جهة أخرى.
عندما نتتبع خريطة العمليات العسكرية في اليمن، سنجد أن كلما تقدم الحوثي في منطقة، انسحبت منها القاعدة، أو على الأقل غيّرت جلدها. وفي مناطق أخرى، تحدث مواجهات محدودة تنتهي بتفاهمات ميدانية غير معلنة. السؤال الكبير هو: لماذا لم يُسجَّل أي صدام دموي حاسم بين الحوثيين وقيادات الصف الأول من تنظيمي القاعدة أو داعش في اليمن؟
ولماذا لا نرى بيانات موجهة مباشرة من هذه التنظيمات ضد الحوثي إلا في مناسبات محدودة بشكل استعراضي مخفف ، غالباً ما تتبعها عمليات غامضة الأطراف والأهداف؟ الأدهى من ذلك، أن الحوثي استثمر في حضور القاعدة وداعش لتبرير وجوده، أمام الداخل والخارج، كطرف يقاتل الإرهاب، في الوقت الذي كان يفتح فيه خطوط تماس غير معلنة معهم لتبادل الخدمات، والصفقات، وحتى الأفراد.
في محافظة البيضاء قلب اليمن جغرافيا ، كان المشهد صارخاً: القاعدة تسيطر على مناطق لسنوات، ثم تُفتح فجأة الطريق أمام الحوثيين للتقدم، دون مقاومة حقيقية. في قيفة، انسحبت داعش من مواقعها قبل أن تصل طلائع الحوثيين بساعات. بينما في مناطق أبين وشبوة، حيث يفترض أن القاعدة تملك نفوذاً تاريخياً، تغاضى الحوثي عن تنفيذ أي حملات حقيقية هناك، مما يفتح باباً للتساؤل: هل هناك تنسيق غير معلن لتوزيع الجبهات والجهود؟
التقارير الميدانية تتحدث عن عمليات تبادل أسرى غير معلنة بين الحوثيين والقاعدة، وعن تمرير أسلحة وعتاد عبر وسطاء وتجار سلاح يعملون لصالح الطرفين. وهناك ما هو أخطر: تسرُّب عناصر من القاعدة إلى الجبهات الحوثية بصفتهم مقاتلين متطوعين، ، هؤلاء لا يُذكرون في الإعلام، ولا تظهر صورهم، لكنهم موجودون، وفاعلون، بل ويشكّلون جزءاً من وحدات النخبة الميدانية الحوثية في بعض المناطق.
من جهة أخرى، لعب الحوثي دوراً خبيثاً في إطلاق سراح عدد من عناصر القاعدة وداعش من السجون التي سيطر عليها في صنعاء وإب والبيضاء، في صفقات إما مباشرة، أو عبر وساطات قبلية. هذه الصفقات لم تكن فقط لتسهيل خروج عناصر مطلوبة دولياً ، بل لتوظيفهم لاحقاً في زعزعة جبهات معينة أو في شن عمليات نوعية تُستخدم كرسائل ضغط ضد أطراف محلية أو إقليمية.
ويُلاحظ أيضاً أن القاعدة، رغم خطابها العنيف حسب أدبياتهم الارهابية ضد (الرافضة) منذ سنوات، لم تنفذ عمليات نوعية ضد مراكز القيادة الحوثية في صعدة أو صنعاء أو ذمار. في المقابل، تتجنب داعش أيضاً مهاجمة مواقع حساسة للحوثي، وتركّز على عمليات في أطراف مأرب أو البيضاء، أي في نطاق التماس مع القوات الحكومية. كل ذلك يُظهر نمطاً دقيقاً من توزيع الأدوار، لا يمكن تفسيره على أنه مجرد صراع ثلاثي، بل تخادم متعمد تحت ستار الصراع.
التخادم هنا لا يعني تحالفاً مباشراً بالضرورة، بل تقاطع مصالح مرحلي، تقوم فيه كل جهة بلعب دور وظيفي في إطالة أمد الصراع وتثبيت حالة اللا-دولة. الحوثي يستفيد من بقاء القاعدة وداعش كفزّاعة، كي يُقدِّم نفسه كقوة ضبط واستقرار، بينما تستفيد تلك التنظيمات من تغاضي الحوثي ومنحه ممرات ومساحات للتنقل وإعادة التموضع.
وهذا التخادم لا يمكن فصله عن البعد الإيراني. فطهران، التي ترى في الحوثيين أداة جيوسياسية، لا تمانع استخدام (العدو التكفيري) كأداة مزدوجة: تخويف الغرب، وابتزاز الداخل اليمني. وتاريخ الحرس الثوري الإيراني مع الجماعات المتطرفة ليس سراً ، بل موثق في أكثر من جبهة، من العراق إلى أفغانستان. واليمن ليست استثناء.
ما يجري في اليمن إذن، ليس مواجهة بين قوات نظامية وجماعات متطرفة انقلبت على الشرعية وتدعم الارهاب ، بل هو حقل اختبارات معقّد لإدارة الفوضى، تحكمه معادلة مركبة من التخادم والتنافر، من المواجهة والتنسيق، ومن العداء الظاهر والتفاهم الخفي. وكلما تأخر الحسم، ازداد هذا التشابك تعقيداً ، وأصبح من الصعب التمييز بين العدو الحقيقي، والعدو المفيد.
في النهاية، سيستمر الحوثي في التظاهر بمحاربة الإرهاب، بينما يُنسّق معه تحت الطاولة. وستستمر القاعدة وداعش في استغلال الفراغ، وتجنيد العاطلين والمهمشين، بينما تترك الحوثي يبتلع الدولة قطعة قطعة. هذا هو اليمن اليوم: وطن تحترق أطرافه بالنار، بينما تُرسم خارطته الجديدة بالحبر الإيراني وسكاكين الإرهاب… كلٌ يؤدي دوره، والضحايا اهم اهل اليمن.
هل آن للعالم أن يفهم أن الحوثي ليس خصماً للإرهاب، بل شريك في إنتاجه وإدارته؟ أم أن اللعبة أكبر من أن تُكشَف، وأقذر من أن تُعترف؟