اليمن في قبضة المشروع الإيراني.. من التغيير الديموغرافي إلى تهديد الملاحة

عبدالجبار سلمان
في الوقت الذي كان فيه اليمن يخطو ببطء نحو بناء دولة ديمقراطية ناشئة بعد سنوات من الصراع والانقسامات، انقلبت المعادلة تماماً عقب سيطرة ميليشيا الحوثي المسلحة على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014. ومنذ ذلك التاريخ، تحول اليمن إلى ساحة صراع إقليمي، باتت فيه إيران اللاعب الأبرز، والجماعة الحوثية الأداة الأهم في تنفيذ أجندتها التي تتجاوز الحدود اليمنية، لتصل إلى عمق الأمن الإقليمي والدولي.
لم تكن سيطرة الحوثيين على صنعاء مجرد انقلاب سياسي، بل بداية لعملية تغيير ديموغرافي مدروسة تهدف إلى إعادة تشكيل البنية السكانية في اليمن وفقاً لأسس طائفية. فقد عمدت الجماعة إلى تهجير المعارضين، خصوصاً من القبائل والمناطق ذات الأغلبية السنية، واستبدالهم بسكان موالين لها. إلى جانب ذلك، فرض الحوثيون هوية دينية مذهبية متشددة على التعليم، والإعلام، والمؤسسات الدينية، ما أدى إلى خلق مجتمع طائفي مغلق، أشبه بنسخة يمنية من النموذج الإيراني للإسلام السياسي المتطرف في لبنان أو العراق.
منذ انقلابها، عملت الجماعة على تعطيل مؤسسات الدولة، والاستيلاء على الموارد العامة، وتوجيهها لتمويل آلة الحرب. البنوك، الاتصالات، الضرائب، والمساعدات الدولية، أصبحت مصادر تمويل رئيسية للجماعة، بينما تفاقم الفقر والجوع والبطالة لدى المواطنين. أما الحياة السياسية، فقد تم تكميمها بالكامل، وتم إقصاء الأحزاب والنخب المستقلة، وتحويل الدولة إلى كيان أشبه بـ”ولاية فقيه مصغرة”، تدين بالولاء الكامل لمرشد الثورة في طهران.
مع تراجع نفوذ إيران في سوريا ولبنان، بدأت طهران بإعادة ترتيب أوراقها. وبعد اغتيال حسن نصر الله وعدد من قادة حزب الله، وجدت في عبدالملك الحوثي القائد البديل. واليوم، تتحدث خطابات الحوثي عن “اليمن كمركز لمحور المقاومة”، في مؤشر واضح على أن إيران تسعى لجعل اليمن بديلاً استراتيجياً لحزب الله. وتشير مصادر استخباراتية وتقارير أممية إلى أن الدعم الإيراني للحوثيين تجاوز بكثير ما قدمته لطهران لحزب الله في ذروته. فإيران لم تكتفِ بتهريب الأسلحة، بل أرسلت قادة من الحرس الثوري ليعملوا كسفراء ومستشارين عسكريين للجماعة في صنعاء.
تشير تقارير لجنة العقوبات الأممية إلى أن الأسلحة التي يستخدمها الحوثيون في هجماتهم ليست من ترسانة الجيش اليمني، بل نسخ مطابقة للسلاح الإيراني: صواريخ كروز، طائرات مسيّرة، صواريخ مضادة للسفن، ومنصات إطلاق حديثة. هذه الترسانة المتطورة تُستخدم اليوم في تنفيذ هجمات على السفن التجارية في البحر الأحمر، مما يهدد أحد أهم الممرات المائية العالمية.
تحول البحر الأحمر، وتحديداً مضيق باب المندب، إلى ساحة صراع مفتوحة بفعل الهجمات الحوثية المتكررة. وأصبح هذا الممر المائي، الذي يمرّ عبره أكثر من 12% من التجارة العالمية، في مرمى التهديدات المسلحة. وبعد أن شن الحوثيين عشرات الهجمات على سفن تجارية في البحر الأحمر، ارتفعت تكاليف الشحن بنسبة 300%. إيران، بحسب محللين، تسعى للسيطرة غير المباشرة على المضيق عبر ذراعها الحوثي، مستفيدة من فوضى اليمن، ومن وجود جماعات إرهابية مثل القاعدة وداعش في المنطقة. وفي 15 مارس 2025، أعلنت الولايات المتحدة بقيادة الرئيس دونالد ترامب، عن إطلاق حملة عسكرية واسعة ضد الحوثيين، استهدفت القدرات الصاروخية والطائرات المسيّرة، وأكدت أن الهدف هو حماية الملاحة الدولية وردع النفوذ الإيراني المتصاعد.
لم يعد الصراع في اليمن شأناً داخلياً، بل جزءاً من لعبة جيوسياسية أكبر. فالموقع الجغرافي لليمن، المتاخم للسعودية، والمشرف على مضيق باب المندب، يجعله نقطة ارتكاز استراتيجية في المشروع الإيراني. وبهذا، تسعى طهران إلى استخدام الحوثيين كورقة ضغط ضد السعودية من جهة، وكمفتاح للسيطرة على الممرات البحرية العالمية من جهة أخرى.
ما يجري في اليمن ليس مجرد صراع بين جماعة متمردة وحكومة شرعية، بل مشروع إقليمي خطير تقوده إيران لإعادة تشكيل المنطقة على أسس طائفية ومسلحة. والحوثيون، في هذا السياق، ليسوا سوى رأس حربة هذا المشروع. إن استمرار التغاضي الدولي عن هذا الواقع سيجعل من البحر الأحمر منطقة نزاع دائمة، وسيُعرض التجارة العالمية والاقتصاد الدولي لمخاطر جسيمة. ولذلك، فإن التعامل مع التهديد الحوثي لا يجب أن يكون أمنياً فقط، بل يجب أن يكون أيضاً سياسياً واستراتيجياً شاملاً، يعالج أصل الأزمة ويعيد اليمن إلى مسار الدولة والشرعية.