كيف استغلت إيران شعار فلسطين لتفتيت العواصم العربية؟

عبدالجبار سلمان
منذ اللحظة الأولى لقيام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979، رُفع شعار “تحرير القدس” كعنوان مركزي لخطابها السياسي والدعائي. أُنشئت “يوم القدس العالمي”، وتصدّرت صور قبة الصخرة الشعارات والرايات، حتى بدا أن إيران أكثر حرصًا من الفلسطينيين أنفسهم على قضيتهم. لكنّ الوقائع على الأرض، بعد أربعة عقود، رسمت صورة مختلفة كليًا.
شعار “القدس” لم يكن مدخلًا للتحرير، بل كان أداة استراتيجية للتغلغل في الجغرافيا العربية، وتحقيق نفوذ سياسي وعسكري عابر للحدود. حين نظر العرب حولهم في العقدين الأخيرين، لم يجدوا تحركًا إيرانيًا مباشرًا نحو فلسطين، بل رأوا طهران تسعى للسيطرة على عواصمهم.
بيروت تحوّلت إلى مركز نفوذ لـ”حزب الله”، لا كجبهة مقاومة، بل كأداة فرض وصاية سياسية وعسكرية على القرار اللبناني. في دمشق، أنقذت إيران نظام الأسد، لا حفاظًا على الشعب السوري، بل لضمان بقاء الحليف المركزي في محور “الممانعة”، الذي بات، عمليًا، ممانعة لكل تغيير داخلي، لا مقاومة خارجية.
في بغداد، ضمنت إيران عبر ميليشيات الحشد الشعبي أن تكون الكلمة العليا لها في القرار السياسي، وامتد نفوذها إلى مفاصل الدولة، الأمنية والعسكرية والاقتصادية.
أما صنعاء، فكانت المثال الأكثر وضوحًا على كيف يتحول الشعار إلى وسيلة احتلال ناعم: سلّحت إيران جماعة الحوثي، وربطتها فكريًا وعقائديًا بمحورها، فجاءت النتيجة أن أصبح اليمن ساحة لحرب استنزاف، لا ضد إسرائيل، بل ضد الدولة اليمنية وشعبها.
فاستثمرت إيران في الحوثيين، لا لتحرير القدس، بل لتحويل اليمن إلى منصة تهديد للممرات الدولية وابتزاز الجوار الخليجي. لكنّ التاريخ لا يظل في خط واحد. فما أن بدأت أذرع إيران تتآكل، حتى تراجع صوت طهران، وسُمع صمتها أكثر من شعاراتها.
غزة تُسحق، آلاف الشهداء يُقتلون في مجازر مروعة، ولم تُحرّك إيران ساكنًا. لا تدخل عسكري، لا ضغوط دولية، لا تهديد مباشر. حتى “حزب الله”، الذي طالما هدد بفتح جبهة الشمال، اكتفى بمعارك محدودة لم تغيّر في المعادلة شيئًا، بينما يُباد القطاع، ويُقتل الفلسطينيون تحت الأنقاض.
في الوقت ذاته، كانت الضربات الإسرائيلية تُوجّه يوميًا للوجود الإيراني في سوريا. مواقع، مخازن أسلحة، قوافل، حتى شخصيات قيادية تُصفّى… دون رد حقيقي. لم تفعل طهران شيئًا إلا أن صمتت وتنازلت: قدمت حزمًا اقتصادية في المفاوضات، وابتلعت الإهانات العسكرية، فقط من أجل الحفاظ على مركزها: طهران، لا القدس.
في اليمن، استمر الحوثي في رفع الشعار ذاته: “الموت لإسرائيل”، “اللعنة على اليهود”، “النصر للإسلام”، لكن لم يكن هناك لا موت لإسرائيل ولا نصر لليمن.
رفض تنفيذ اتفاق ستوكهولم، توهم أن عناده بطولة، فكان الثمن مروّعًا: الحديدة وتهامة عموماً تدمرت، منشآت حيوية في الحديدة ورأس عيسى والصليف سُويت بالأرض، حتى تلك التي كانت واشنطن ولندن تمنع تحريرها باسم “الإنسانية”، لم تسلم من قصف أمريكي وإسرائيلي. سقطت كل المبررات، وظهر زيف الشعار. وحين سقطت هذه المنشآت، لم تتحدث إيران عن أي إنسانية. لم تُندد، لم ترد.
الحوثي لم يحرر القدس، ولم يزلزل إسرائيل، ولم يخدم اليمن. كل ما فعله هو أنه جعل من بلاده ساحة لصراع إقليمي ليس لها فيه ناقة ولا جمل. ومكّن مشروعًا إقليميًا من السيطرة على بلاده، مستخدمًا “القدس” كقناع لاحتلال داخلي. واليوم، لم يبقَ له سوى وهم الشعار، بينما البلاد تنهار، والقدس تُباد، وطهران تنجو وحدها. تحولت الجماعة إلى أداة في مشروع إقليمي يستخدم الشعار كقناع، لكن الواقع فضحه: لا مشروع مقاومة، بل مشروع هيمنة.
إن التجربة الإيرانية في العالم العربي لم تكن تجربة مقاومة صادقة، بل تجربة استغلال سياسي وإيديولوجي لقضية فلسطين وللمقاومة وتحويلها من مشروع تحرير إلى مشروع نفوذ. أُفرغ الشعار من مضمونه، وتحول إلى لافتة لتبرير التدخلات، وتمزيق الدول، وإضعاف الجيوش، وتحويل المجتمعات إلى ساحة صراع أهلي.
اليوم، تسقط الأقنعة. لا أحد يصدق أن من يحتل أربع عواصم عربية، ويصمت على مذابح غزة، ويقايض على طاولة المفاوضات للحفاظ على نظامه، يمكنه أن يكون حاملًا صادقًا للواء القدس. فلسطين لا تتحرر بالشعارات، ولا بالميليشيات، ولا بخطابات الكراهية. بل تحتاج إلى مشروع عربي موحد، نقي من الأوهام، وخالٍ من الحسابات الإقليمية التي تتاجر بها.