إسرائيل والحوثيون.. مزاعم المواجهة وعدمية المشهد

أنور العنسي
بعد قصف إسرائيل مطار صنعاء الدولي للمرة الثانية في 28 مايو/أيار وتدمير آخر طائرة للأسطول الجوي اليمني، فور وصولها من العاصمة الأردنية عمان لتقل عشرات الحجاج إلى جدة، ردا على استمرار جماعة الحوثيين في استهدافاتها غير المجدية للمصالح الإسرائيلية، لا يمكن وصف ما يحدث بين إسرائيل وجماعة الحوثيين في اليمن من هجمات وهجمات انتقامية مضادة، على خلفية ما يجري في غزة سوى أنه عبث غير مُجد وغير مؤثر أو محسوب العواقب، بل شبيه بانتحار سياسي لكلا الطرفين بلا معنى. إذ لا أحد فيه منتصر على أحد، حيث تفسد إسرائيل صورتها وسمعتها أكثر فأكثر جراء ما تفعله في غزة واليمن، فيما تتسبب هجمات الحوثيين بردود فعل إسرائيلية مدمرة تكلف اليمن الفقير والمنكوب الكثير من أصوله المدنية ومقدراته المتواضعة.
الصورة أصبحت واضحة تماما ولا تحتاج إلى مزيد من التفسير، ليست مربعة بل مثلثة، أضلاعها الأساسية:
تَرْكُ إدارة ترمب أمر الحوثيين لإسرائيل، بحجة توصل واشنطن إلى تفاهم هش بواسطة عُمانية، تعهد بموجبه هؤلاء بعدم التعرض للسفن العسكرية والتجارية الأميركية في البحار التي يطل عليها اليمن، في حين أن الهجمات الإسرائيلية أكثر فتكا باليمن من نظيرتها الأميركية حيث لا تميز بين هدف عسكري ومنشأة مدنية يستخدمها الحوثيون لأغراض عسكرية أو تدر عليهم أموالا يستفيدون منها في دعم مجهودهم الحربي.
ثمة تكديس للسلاح والذخائر جرى في أكثر من مكان، وما لم يتم تدميره خلال الحملة العسكرية الأميركية، قبل التفاهم الذي رعته سلطنة عمان، يجب أن يتم التخلص منه على يد الجيش الإسرائيلي
ثاني تلك الأضلاع هو توحش إسرائيل ليس في غزة وحدها بل في اليمن أيضا حيث تنتهك سيادته وتنسف موانئه ومطاراته ومحطات الطاقة الكهربائية حتى خلال احتفاله بالذكرى الـخامسة والثلاثين لتوحيد شطريه في 22 من مايو عام 1990 وقيام دولته التي يحاول الحوثيون تفكيكها، وذلك من خلال غاراتها العنيفة المكثفة على صنعاء (العاصمة التاريخية) لليمن الموحد.
ثالث هذه الأضلاع هو ألاعيب إيران من تحت الطاولة بـ"الورقة الحوثية" في محاولة لتشتيت الأنظار عن دورها الإقليمي المزعزع لاستقرار المنطقة، ولتخفيف الضغط عليها بشأن برنامجها النووي.
إسرائيل تبدو ماضية في اتخاذ العقوبات الأميركية على جماعة الحوثيين وتصنيفها بالإرهاب غطاء ومبررا قانونيا لتدمير القدرات العسكرية للجماعة وقصف المنشآت المدنية التي يُتهم الحوثيون باستخدامها لأغراض عسكرية
هل من هدف خاص للحوثيين؟
تدري جماعة الحوثيين أو لا تدري أنها تخوض مواجهة غير متناسبة ولا متكافئة مع خصم شرس وقوي ومتوحش كإسرائيل، لا طائل منها، سواء لنصرة غزة وتجنيبها كوارث الإبادة ومحوها من الوجود، ولا حتى لتكريس الجماعة لصورتها والاعتراف بها كـ"قوة إقليمية" يتفق كثيرون حول العالم على أنها ليست أكثر من "ميليشيات مارقة ومنبوذة" وعلى أن مصيرها مرهون بمستقبل النزاع مع إيران سواء تم حسمه دبلوماسيا من خلال مفاوضات المبعوث الأميركي، ستيف ويتكوف، أو عسكريا وفق منظور إسرائيل التي قد تأخذ به حتى دون الحاجة إلى إذن من حليفتها واشنطن.
لكن للحوثيين أهدافا أخرى من الاستمرار في هذا الصدام مع إسرائيل على خلفية (نصرة غزة) من أهمها التهرب من استحقاق الحل السياسي المطلوب لإنهاء صراعهم مع خصومهم في الداخل اليمني.
ولهذا السبب سوف يواصلون السعي لمواجهة إسرائيل أو افتعال أزمات أخرى مع جيرانهم في الإقليم سواء بإيعاز من إيران التي تحاول التظاهر بالنأي بنفسها عنهم، والادعاء بأن قرارات الجماعة المرتبطة بها عقائديا وسياسيا "مستقلة" وأن لا تأثير لها عليها!
كما أن الحوثيين قد يغامرون بعمل أي شيء يستفز جيران اليمن تحت شعار المطالبة برفع العقوبات والحصار الاقتصادي اللذين يعتقد الحوثيون أن بعض الدول المجاورة ضالعة فيها بهذا القدر أو ذاك، بحسب ما صرح به وألمح إليه بعض "صقور" الجماعة، مهددين بإمكان استهداف هذه الدول في حال طال أمد الضغط الاقتصادي المتعدد الأشكال، المفروض عليهم إقليميا ودوليا.
خيارات تل أبيب
بصرف النظر عن توقف الغارات الأميركية على مناطق سيطرة الحوثيين فإن إسرائيل تبدو ماضية في اتخاذ العقوبات الأميركية على جماعة الحوثيين وتصنيفها بالإرهاب غطاء ومبررا قانونيا لتدمير القدرات العسكرية للجماعة وقصف المنشآت المدنية التي يُتهم الحوثيون باستخدامها لأغراض عسكرية وصولا أيضا إلى استهداف كبار القادة الحوثيين بمن فيهم زعيمهم، عبد الملك الحوثي، كما توعد بذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، غير مرة، ومن قبله الرئيس الأميركي وكبار المسؤولين السياسيين والعسكريين في إدارته.
واقع مأساوي
ونقلت تقارير عن سكان وشهود عيان في العاصمة صنعاء، إفادات متطابقة بدَوي انفجارات ضخمة صباح يوم 22 مايو، يُعتقد أنها ناجمة عن استهداف إسرائيل لمستودعات أسلحة تابعة للحوثيين في صنعاء ومحيطها، فضلا عن مخازن لهذه الأسلحة يُتهم الحوثيون بإخفائها والتمويه عليها وسط حارات مكتظة بالسكان، ما تسبب في تفجر آخر تلك المستودعات لقرابة ساعتين، ونجم عنه سقوط عدد من القتلى والجرحى جراء انهيار بعض المنازل على رؤوس ساكنيها من المدنيين العزل وأغلبهم من النساء والأطفال وكبار السن.
أظهرت الصور ومقاطع الفيديو التي تداولها ناشطون عن الانفجارات ما وصفها أحدهم بأنها "جريمة كبرى ودمار شامل حدث في صنعاء اختفت معها حارة بأكملها، وما تبقى منها إلا حطام وبقايا جثث وقبضة أمنية إجرامية تقتل الشعب ولا تسمح له حتى بجنازة يسمع بها الناس".
الحوثيون يطلقون صواريخهم ومسيراتهم باتجاه إسرائيل من مناطق مختلفة غير صنعاء، في شمال وغرب البلاد، ومن مواقع مدنية ومنصات متنقلة في بعض هذه المناطق لا تخطر ببال خصومهم
بينما قال آخر إن الانفجارات التي هزت منطقة "صرف" شمال شرق صنعاء "حصلت دون قصف، والمشكلة أن الضحايا القتلى كانوا حوالي تسعه الى عشرة أشخاص وجرحى فوق أربعين شخصا".
لكن الأخطر من ذلك، إذا تأكد، هو ما ذهب إليه البعض من أن الحوثيين وضعوا صواريخ وذخائر ومعدات عسكرية في (ملجأ) أسفل عمارة سكنية يقطنها مدنيون لا علم لهم بها، وصاروا ضحية لاستهدافها إسرائيليا أو انفجارها لأسباب أخرى، وقد يكون هذا مشابها لحالات أخرى جرت وتجري في سياق تمويه الحوثيين للأماكن التي يخفون أسلحتهم فيها.
نموذج آخر
منطقة الكثيب والقاعدة البحرية والمرافق التابعة للقوات البحرية الحوثية في محافظة الحديدة كانت هدفا لغارات أميركية خلال الأشهر الماضية، فيما تعرض ميناء الحديدة لهجمات إسرائيلية عنيفة ومدمرة.
وتفيد مصادر ومعلومات نشرها موقع "ديفانس لاين" المتخصص في الشؤون العسكرية أن الجماعة الحوثية "قامت بتخزين أسلحة وذخائر، بينها صواريخ وتقنيات بحرية ومعدات استراتيجية في مخابئ مستحدثة وشبكة مخازن محصنة تم توزيعها في مواقع متعددة ومتباعدة في المناطق الساحلية على البحر الأحمر" الخاضعة لسيطرتها.
الأمر يبدو جليا وجوهره أن ثمة تكديس للسلاح والذخائر جرى في أكثر من مكان، وما لم يتم تدميره خلال الحملة العسكرية الأميركية، قبل التفاهم الذي رعته سلطنة عمان، يجب أن يتم التخلص منه على يد الجيش الإسرائيلي، فما اختلف هنا هو تدوير المواجهة مع الحوثيين وتسليمهم من يد جيش إلى يد جيش حليف آخر.
من المرجح أكثر أن تكون انفجارات مخازن الحوثيين العسكرية ناجمة عن قصف إسرائيلي استهدفها بدقة عالية، ولكن من غير المستبعد أيضا أن يكون ذلك قد حدث أثناء قيام عناصر الجماعة بتحريك بعض الصواريخ وفشلهم في إعدادها لمهاجمة إسرائيل، خصوصا بعد هروب أو فرار أو استدعاء عناصر "الحرس الثوري" الإيراني و"حزب الله" اللبناني الذين كانوا يوفرون الخبرة الأساسية في هذا الشأن، وفق تأكيدات كثيرين.
وقد يكون ذلك نتيجة لسوء تخزينها بمعايير محددة للأمن والسلامة، أو لحالة الذعر والارتباك التي تعانيها الجماعة بعد الاستهداف المزدوج الأميركي-الإسرائيلي لمناطق سيطرتها، غير أن المحصلة في نهاية المطاف واحدة، وهي أن سلسلة الانفجارات هذه وحدها قتلت نحو عشرة مدنيين وأصابت نحو أربعين آخرين بينما لم تقتل كل الصواريخ والمسيرات التي أطلقها الحوثيون عددا موازيا من الإسرائيليين، منذ أن انخرطت الجماعة في هذه المواجهة مع الجيش الإسرائيلي، عقب شن إسرائيل حربها الضروس على قطاع غزة ردا أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
يبدو أن الإعلام الدولي بات غير مكترث بما يجري في اليمن بسبب الضربات الجوية الإسرائيلية، وتأثير ذلك على المدنيين اليمنيين الذين لا دخل لهم في هذه المواجهة الشرسة
غير أن انفجارات صنعاء تعيد التذكير بمسألة أخرى، وهي أن العاصمة اليمنية مبتلاة باكتظاظها بأكبر عدد من المعسكرات ومخازن الأسلحة والذخائر، حتى منذ ما قبل سيطرة الحوثيين على العاصمة، وزاد عليها الحوثيون ورشا متفرقة صغيرة لتصنيع الألغام والذخائر وتجهيز الصواريخ والمسيرات المهربة من إيران لاستخدامها في أنشطتهم الحربية، داخليا وخارجيا.
ومع هذا فإن الحوثيين يطلقون صواريخهم ومسيراتهم باتجاه إسرائيل من مناطق أخرى مختلفة غير صنعاء، في شمال وغرب البلاد، ومن مواقع مدنية ومنصات متنقلة في بعض هذه المناطق لا تخطر ببال خصومهم.
هل ستتكرر قصة "حزب الله" مع الحوثي؟
الغارات الجوية الإسرائيلية على صنعاء والحديدة توحي إجمالا بأن ثمة معلومات استخباراتية ربما قد تكون توفرت لإسرائيل عن أماكن وجود بعض القيادات الحوثية المستهدفة، لكن المحبط دوما لإسرائيل أن تلك الأهداف "متحركة" على مدار الساعة، بينما تحتاج المقاتلات الإسرائيلية لنحو ساعتين على الأقل للوصول إلى الأجواء اليمنية، وهذا بخلاف ما كان عليه الحال عند استهدافها لقيادات "حزب الله" اللبناني خلال أقل من دقائق على رصد مواقعهم.
مأساوية المشهد إعلاميا
باستثناء ادعاءات إسرائيل حول إنجازات سلاحها الجوي، وما تنشره وسائل إعلام الحوثيين من صور لمسرح "جرائم العدوان الإسرائيلي" بعد تنظيفه وترتيبه فلا يوجد سوى مقاطع فيديو مأخوذة عن بُعد لسُحب الدخان وألسنة اللهب الناجمة عن الغارات الإسرائيلية يتداولها مواطنون وناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن التحقق من مصداقيتها.
هذا فيما يبدو أن الإعلام الدولي بات غير مكترث بما يجري في اليمن بسبب الضربات الجوية الإسرائيلية، وتأثير ذلك على المدنيين اليمنيين الذين لا دخل لهم في هذه المواجهة الشرسة بين جماعة الحوثيين وإسرائيل، والواضح أنه لا اكتراث لدى طرفي هذه المواجهة أيضا بعواقبها، ما يجعلها في نظر الصحافة العالمية قصة لا جدوى من متابعتها وتغطيتها سيما في ظل تكتيم الحوثيين على ذلك وإحجام إسرائيل عن الكشف عما لديها من معلومات استخباراتية حول نتائجها.
في التحليل النهائي للمعلومات المتوفرة عن محصلة هذا الصدام المسلح وغير المتكافئ بين إسرائيل وجماعة الحوثيين، فإننا نكاد لا نعلم تماما إلى أين تتجه الأمور، لكننا ندرك أنها تسير حتما نحو المجهول الأسوأ، في اليمن خصوصا والمنطقة على وجه العموم.