برّان برس | أعد التقرير - ضيف الله الصوفي:
لم تقتصر نضالات اليمنيين ضد الإمامة على الثوار الرجال فحسب؛ فالعديد من النساء برزن قبل ميلاد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، بعقد من الزمن.
ففي أربعينيات القرن الماضي، برزت المناضلة اليمنية “تحفة سعيد سلطان الشرعبي”، كرمز للثورة والشجاعة ضد حكم الإمام أحمد في محافظة تعز (256 كم جنوب صنعاء)، متصدّية لسياسة الجبايات الباهظة التي كان يفرضها حينذاك، وغيرها من أشكال الظلم والاضطهاد التي طالت المواطنين.
ولدت "تحفة" في قرية حُبل وسط مديرية شرعب السلام، شمال مدينة تعز، وكانت، وفق مقربين منها، تتمتع بشخصية قوية، وانفردت عن غيرها من النساء حينها بصفات جمعت بين الحضور والهيبة وقوة المواجهة؛ فالبيئة الجبلية التي نشأت وترعرعت فيها، أكسبتها الإصرار والتحدي وقوة القرار ورفض الخضوع لأي قوى سلطوية.
بحسب من عاصروها، فإن “تحفة” كانت تتمتع بشعبية واسعة في أوساط الأهالي والناس من حولها، فقد كانت تحرص على بناء علاقات قريبة مع البسطاء والكادحين، الأمر الذي أهّلها لأن تكون قائدة ثورية ضد ظلم الإمامة.
منطلق النضال
عن “تحفة الشرعبية”، ومواقفها الثورية وأدوارها النضالية، قال “نايف الحيدري” أحد أحفادها لـ“بران برس”، مفضلًا عدم ذكر اسمه، إن نجمها بدأ بالظهور وطنيًا مع التصعيد الذي قادته في وجه الإمام أحمد، الذي كان والي تعز حينها، في أربعينيات القرن الماضي.
وأضاف أنها “قادت حراكًا ثوريًا نضاليًا وطنيًا لمناهضة سلطة الإمامة وسياسة الجبايات التي كانت تفرضها على المواطنين، وحراكًا اجتماعيًا من خلال رفضها للأعراف الظالمة التي كانت تحرم النساء من حقهن في الميراث”.
وكل هذا قال إنه أكسبها نفوذًا متصاعدًا في منطقة شرعب، من خلال مواقفها الشجاعة الرافضة لظلم وطغيان سلطة الإمام، وعجز عكفة وأعوان السلطة الإمامية على مواجهتها والحد من نفوذها، بما فيها أساليبهم التحريضية لتأليب الناس والنافذين لمصادرة أملاكها وأسرتها بطرق غير مشروعة بهدف إيقاف نشاطها الثوري.
ورغم هذا، يقول حفيدها، إنها استطاعت طرد أعوان الإمام والنافذين الموالين لها وانتصرت عليهم، وهو ما ضاعف مخاوف الإمام من تزايد شعبيتها ونفوذها بعد عجز أعوانه والنافذين الموالين له عن تحجيم دورها وحضورها الشعبي.
مسيرة احتجاجية
لم تستسلم “تحفة” لأساليب الإمامة وترهيبها، ورفضت الخضوع لجبروتها، بل واجهتا بعزيمة وإصرار. ووفق حفيدها، فقد قادت أول مسيرة احتجاجية راجلة بدءًا من منطقتها شرعب السلام وصولًا إلى قصر “العرضي”، مقر إقامة الإمام أحمد، وسط مدينة تعز.
وقطعت “تحفة”، ومن معها، سيرًا على الأقدام مسافة 40 كيلو مترًا، بهدف إيصال رسالة احتجاج للإمام، تبين خلالها ظلم عماله وعكفه الذين يرسلهم لابتزاز ونهب أبناء المنطقة، وهو ما دفعه للتعهد بوقف التعسف والظلم.
وفق نايف الحيدري، حفيد المناضلة، فإنه بعد أيام من عودتها إلى مسقط رأسها شرعب، خاطبها الإمام بشكل مباشر “من الإمام أحمد إلى تُحفه حُبل”، متعهدًا بإنصافها ومنع أعوانه من الاقتراب من أملاكها وأملاك المواطنين في منطقتها.
كما تعهد بعدم تكرار تعسفات عكفه ضد المواطنين العاملين في استصلاح الأرض، معتبرًا الرسالة اعترافًا من السلطة الحاكمة بنفوذ “تحفة” في شرعب.
تهديد
رغم العهد الذي قطعه الإمام، إلا أنه بحسب حفيد المناضلة، بعد أشهر قليلة، عادت ممارسات عكفة الإمام التعسفية بحق المدنيين والبسطاء. وهو ما اضطر المناضلة “تحفة” إلى طرد عامل الإمام من شرعب.
وهو الموقف الذي أغضب الإمام، ودفعه لتهديدها بالقصف المدفعي قائلًا في رسالته الشهيرة: “يا شرعبية خلي الأذية، صوت المدافع في الجحملية”. وهي الرسالة التي أصبحت مثلًا شعبيًا على عنف الإمامة ضد المجتمع، وبالأخص النساء.
وفق اعتقاد حفيد الثائرة تحفة، فإنها فهمت فحوى رسالة التهديد، الأمر الذي زاد من شعبيتها وضاعف السخط الشعبي ضد الإمام، حيث استغلت الفرصة وعملت مع أبناء المنطقة على توحيد الصفوف وزراعة الأرض.
وقال “الحيدري” إنها تميزت بقدرتها على كسب احترام الناس من خلال تعاملها العادل معهم، بعيدًا عن التمييز والطبقية بين الشيخ والرعية. كما عملت على استصلاح الأراضي القاحلة وتوزيعها على الفلاحين والمهمشين مقابل مبلغ سنوي زهيد، مما ساعدهم على الاستقرار.
كفاح مسلّح
بعد فشل الجهود السلمية في وقف جبايات الإمامة الجائرة، قررت الثائرة “تحفة” شراء الأسلحة وتسليح العاملين معها لحماية الأرض، وهذا ما ضاعف سخط الإمام ضدّها باعتبارها خطرًا يهدد تدفق الجبايات من شرعب.
وبعد هذا الموقف، قال حفيدها، إن دائرة نفوذها توسعت في المنطقة، وتفرغت لحسم قضايا متعلقة بملكية الأرض، ما مكنها من الحصول على أملاك جديدة وتوزيعها بين الناس.
وبلغ حضورها العاصف إلى وادي نخلة باعتباره شريان زراعي يمتد من إب مرورًا بتعز وصولًا إلى الحديدة، بحسب ما تناقله الأهالي في شرعب السلام.
بفضل شجاعتها وحرص أبناء المنطقة على رفض الظلم، قال إن شرعب خرجت حينها عن سيطرة عكف الإمام قبل 5 سنوات من قيام ثورة 26 سبتمبر 1962، التي أطاحت بحكم الإمامة وأقامت النظام الجمهوري.
وفي العهد الجمهوري، اهتمت “تحفة”، وفق حفيدها، بتعليم الشباب. مضيفًا أن أغلب أبناء المنطقة كانوا يعتمدون على أرضها للحصول على مستلزمات تعليم أولادهم.
في ديسمبر 1994، توفت المناضلة تحفة، بعد أن سجلت مواقف وطنية واجتماعية بارزة خلدها التاريخ، وجعلها تتصدر قائمة النساء اليمنيات كثائرة ملهمة وشخصية ذات ثقل مجتمعي كبير، ورمز وطني لرفض الظلم والطغيان.
لكل زمان مناضلات
تعد “تحفة”، نموذجًا للعديد من النساء اليمنيات اللاتي واجهن ظلم الإمامة وطغيانها، وكان لهن دورًا كبيرًا في بزوغ فجر الجمهورية، وترسيخ قيم النضال لتخليص الشعب والبلاد من الظلم والظلام الذي كان سائدًا حينها.
ففي صنعاء على سبيل المثال، تذكر المصادر التاريخية، “عاتكة الشامي”، كواحدة من أبرز المناضلات، ومن أبرز أدوارها قيادة أول مظاهرة نسوية ضد الإمامة عام 1961 للمطالبة بافتتاح مدرسة للفتيات.
وغيرها من النماذج النسوية، التي واجهت ظلم واستبداد الإمام يحيى في صنعاء وابنه أحمد في تعز، باعتبارهما الحلقة الأخيرة من عهد الإمامة الذي عرف بثالوث: الجوع والجهل والمرض.
شرار الثورة
حول دور المرأة اليمنية في التحرر من الاستبداد والاستعمار، قال الصحفي نجم المريري، لـ“بران برس”، إن “التاريخ يحتفظ بنساء قدن شرارة الثورة في الشمال والجنوب”، معتبرًا “تحفة حبل مثالًا على ذلك في الشمال، وفي الجنوب برزت الكثير من النماذج النسائية المناهضة للإحتلال بينهن الفدائية دعرة بنت سعيد ثابت”.
وقبل أن تحمل السلاح وتقاتل في صفوف الثوار كعضو في قيادة جيش التحرير بمنطقة ردفان، كانت “دعرة” قد شاركت في ثورة 26 سبتمبر ضد الإمامة شمال الوطن ولقّبت بعدها بـ“بطلة الثورتين”.
يضيف الصحفي المريري، أن "المجتمع اليمني مجتمع عصبوي أُسري بطبيعته، ولأن المرأة هي الجزء المؤثر داخل الأسرة فإن ولادة الثورة يعكس الدور المحوري للنساء في تكوين جنين الثورة نفسه”.
دور متواصل
على مدى عقود طويلة، ظل الدور النضالي والوطني للمرأة اليمنية متصاعدًا، وبرزت العديد من الوجوه النسائية التي تتحلى بالروح الثورية، وتقاوم المشروع الإمامة بنسختيه القديمة المتمثلة بالمملكة المتوكلية، وامتدادها الحالي المتمثل في جماعة الحوثي التي تعد امتدادًا سلاليًا وفكريًا له.
فمنذ انقلابها وسيطرتها على العاصمة صنعاء أواخر العام 2014، سعت جماعة الحوثي لفرض سلسلة قيود “صارمة” على النساء، من شأنها تكبيل حرية المرأة ونشاطها ودورها السياسي والاجتماعي، وصولًا لاعتقال العديد منهن.
هذه القيود والانتهاكات الحوثية الموجهة ضد المرأة، وفق مراقبين، أفقدت المرأة اليمنية معظم المكتسبات التي حققتها طيلة 5 عقود. وطيلة العقد الماضي، برزت العديد من النساء لمواجهة هذه الانتهاكات ورفضها، ومساندة المعركة التي تخوضها القوات المسلحة والمقاومة الشعبية لإنهاء الانقلاب الحوثي واستعادة الدولة اليمنية.
وبالنظر لدورها القوي على مستوى الأسرة والمجتمع، يقول الصحفي المريري، إن المرأة “من أكثر الفئات التي يخشاها الحوثيون ويواجهونها بالقمع”. وهذا يفسر برأيه “الانتهاكات التي تعرضت لها النساء في مناطق جماعة الحوثي ربما تتجاوز ما تتعرض له مختلف الفئات الأخرى”.