أعد التقرير لـ"برّان برس" - نايف الجرباني:
تحت خيام متهالكة تترنّح على وقع موجات الصقيع، يعيش مئات الآلاف من النازحين بمحافظة مأرب (شمال شرقي اليمن)، في شتاء قارس لا يرحم، في ظل غياب للتدخلات الإنسانية للمنظمات الأممية والوكالات الدولية.
ففي مخيمات النزوح المتناثرة في محيط مدينة مأرب، تتجلى قسوة الواقع بوضوح، مع نقص الغذاء والمساعدات والملابس الشتوية والعلاج، الأمر الذي يضرب النازحين في صميم حياتهم اليومية.
تفتقر تلك المخيمات لأبسط مقومات الحياة الكريمة. تروي حكايات الوجع والمعاناة لآلاف الأسر اليمنية التي أجبرتها الظروف على النزوح. تمتزج فيها قسوة الظروف المعيشية مع برودة الشتاء، لتصبح الحياة أكثر صعوبة مع كل يوم يمر.
الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين بمأرب، أطلقت نداءً عاجلاً لإنقاذ حياة 203 ألف أسرة تسكن في مخيمات ومساكن مؤقتة غير محمية من البرد الشديد، محذّرة من مخاطر تهدد حياة آلاف الأطفال وكبار السن.
“برّان برس” زار عدد من مخيمات النزوح، شملت “السويداء والقوز والميل”، لاستطلاع أوضاع النازحين فيها مع اشتداد البرد، والوقوف على المعاناة التي يعيشونها عن قرب.
مخيم “القوز”، جنوب شرقي مدينة مأرب، واحدا من تلك المخيمات التي زارها فريق الموقع، حيث يحتضن 510 أسرة نازحة، تضم 2431 فرد، وفقًا لمسح أجرته المنظمة الدولية للهجرة في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2022.
وتنحدر أغلب الأسر في المخيم، وفق مسح المنظمة، من مديرية المراوعة بمحافظة الحديدة (غربي اليمن)، ومديرية نهم (شرقي صنعاء)، ومديرية حبيش بمحافظة إب (وسط اليمن)، فيما البقية من محافظات متفرقة.
يضم المخيم أسر يعيلها أطفال، والعديد من ذوي الاحتياجات الخاصة، والمسنين، وعشرات الحوامل والمرضعات، في حين أن الغذاء والمياه والمساعدات النقدية من الاحتياجات ذات الأولوية بالنسبة للنازحين في المخيم.
صراع مع البرد
في فصل الشتاء، يتحول المخيم إلى ساحة من الصراع مع البرد القارس، في ظل انعدام وسائل التدفئة والملابس الشتوية، فضلاً عن قلة الطعام والمياه النظيفة، فيما يدفع الأطفال، ببراءتهم وضعفهم، الثمن الأكبر لقساوة الشتاء.
بإمكانيات بسيطة وبدائية، يواجه النازح "أمين عبدالله عمر"، البرد وقسوته.. بطانيات خفيفة لا تقي من البرد، يفترض توزيعها في الصيف، إضافة إلى أن المخيم في منطقة زراعية باردة جدًا، كما يقول لـ“برّان برس”.
ويضيف "أمين" في حديث مصوّر: “هنا برد شديد جداً في منطقة القوز، يمزق البشرة يضر بالنازحين، يعاني النازحين جدا من البرد، حتى الأدوية لا تفيد مع الاستمرار للتعرض للبرد خاصة الأطفال وكبار السن”.
ويؤكّد النازح “عمر سعيد الهمداني”، مع ما قاله “أمين”، في توصيف قسوة البرد وشدته، قائلًا إن “برد هذه السنة شديد جداً يختلف عن باقي السنوات.. برد ينزل صقيع”.
ويضيف لـ”برّان برس”، إن 95 % من النازحين ليس لديهم سوى طرابيل وخيام، ويحتاجون إلى ملابس شتوية وبطانيات”، مستطردًا: “الناس هنا يعيشون حياة صعبة يرثى لها، لا يوجد لديهم مصادر دخل.. كم اشرح من معاناة”.
ثلاجة القوز
“عبدالله شوقي مهدي”، نازح من أبناء الحديدة (غربي اليمن)، وصف حالة البرد في المخيم بـ“فريون الثلاجة”، في وصف يعكس شدّة البرودة، وحجم المعاناة التي يعيشها ومع آلاف النازحين في المخيم خلال الشتاء الحالي.
وعن وضع الأطفال، يقول “عبدالله”، لـ“برّان برس”: ”يتعرض الأطفال بشكل مستمر للحمى والسعال نتيجة البرد الشديد، وانعدام وسائل الوقاية والتدفئة”.
وحتى كبار السن، قال إنهم “يمرضون من شدة البرد بسبب عدم وجود ما يدفئ النازح داخل الخيمة، فمن شدة البرد لا تدفيه حتى بطانيتين”.
عن المساكن والغذاء والدواء، قال إن معظم مساكن النازحين من “النقليات والكنتيرات”، لا تحميهم من البرد والحر”، مؤكدا أن “هناك نقص كبير في جانب تدخل الغذاء، وشحة كبيرة في توفيره من قبل المنظمات”.
ومع ارتفاع الأسعار وتدهور العملة المحلية “بات النازح عاجز عن توفير الغذاء لأسرته”، حد قول “عبدالله”، الذي أكد أنه "لا توجد أدوية كافية للأمراض البسيطة المنتشرة مثل الحميات.. وانعدام تام للرعاية الصحية”.
فوق الاحتمال
خلال تنقّل فريق “برّان برس”، في المخيم، ومقابلته العديد من ساكنيه، كانت الشكوى الأكثر لدى النازحين هي معاناة البرد القارس الذي يضرب بلا رحمة أجساد النازحين داخل الخيام المهترئة.
“البرد قوي جدا، الأطفال وكبار السن لا يتحملون برد هذا العام، الوضع مزري جداً هذا العام، حالة النازحين سيئة للغاية، الغذاء فيه شحة، أدعو الجهات المعنية إلى القيام بواجبهم تجاه النازحين”، هكذا لخص النازح “محمد علي جابر المحمدي” خلال مصادفته فريق ”برّان برس”، معاناتهم في مخيم القوز.
“أم إبراهيم”، إحدى النازحات التي صادفناها خلال تنقلنا داخل المخيم، وهي كغيرها ممن التقيناهم، حيث كل فرد في المخيم يمثل قصة معاناة لا يقوى على سماعها من يحمل ضمير حي.
فإضافة إلى معاناة البرد وأمراضه، وقساوة النزوح والتشرد، وصعوبة الحياة المعيشية، تعاني “أم إبراهيم”، من “النقرس”، وعدة أمراض أخرى، في حين أن ابنها الذي قالت إنه مصاب بحالة نفسية يعاني أيضًا من السكر.
تقول “أم إبراهيم”، لـ“برّان برس”: “نعيش أوضاع إنسانية صعبة، أعاني من النقرس وامراض أخرى وأحتاج إلى عملية ولا أملك نقود، وابني يعاني السكر وحالة نفسية، نرتاح من البرد قليلا في النهار، أما الليل يكون البرد قارس جدا، نعيش حياة صعبة وقاسية، لا نعلم أين نذهب”.
وفيات وحرائق
وما يجعل مخيم “القوز“ من أكثر المخيمات معاناة من البرد الشديد، كونه في منطقة مرتفعة، فالخيام فيه لا تقي من البرد، كما أن بعض الأسر لديها حجرة واحدة يسكنها الزوج والزوجة، في حين باقي أفراد الأسرة في الخيام.
وخلال استماعنا لأحاديث النازحين عن مأساة البرد القارس، وسؤالنا عما إن كان هناك وفيات وضحايا للبرد، أكّد النازح “سلطان معيذ” المنحدر لمحافظة المحويت، وجود وفيات في المخيمات بسبب البرد الشديد وشحّة وسائل الحماية.
وقال “سلطان“: "لا يوجد ملحق طبي للمخيم حيث يسبب البرد الحمى والكحة، وهناك أطفال توفوا لعدم توفر الأدوية وعدم قدرة النازحين على الذهاب إلى المراكز الطبية الخاصة.
وذكر أن البطانيات التي يتم توزعيها "لا تغطي الجسم بالكامل ولا تقي من البرد"، مضيفًا: "نعاني من شح في البطانيات والملابس الشتوية".
وفي مسكن من "الزنج وشباك وطرابيل"، تعيش أسرة النازح "عبدالله حسن خبان"، من أبناء الدريهمي بالحديدة، والذي يعاني من غضاريف وكسور.
وبسبب شدة البرد، قال إنه لا ستطيع النهوض صباحاً، فستعين بأبنائه للنهوض من فراشه، وحتى يستطيع المشي ينتظر حتى طلوع الشمس.
وكون السكن من الطرابيل والمواد القابلة للاشتعال، والذي قال "عبدالله"، إنه لا يستطيع وأسرته استخدام دفايات، كونها تتسبب باندلاع حرائق، مؤكًدا: "لذلك أصبحنا بين نارين".
وقال: "حدثت حوادث بسبب الدفايات حيث لا تتحمل الأسلاك والطرابيل حرارة الدفايات، وحرارة الأسلاك بسبب سحب الدفايات للكهرباء، وتتسبب في احتراق الطرابيل”.
وأضاف: “شاهدت أطفال يحترقون ويتفحمون أمام عيني في مخيم القوز، وتخلى النازحين عن استخدام الدفايات خوفاً من الحرائق”.
وعود عالقة
النازح “عبدالله دبيش عايش الزرنوقي”، تحدث عن وعود قدمتها المنظمة الدولية للهجرة، ببناء مساكن مستدامة للنازحين في المخيم تحميهم من التغيرات المناخية، لكنها "لم تفي بوعدها"، حد قوله.
وقال: "أعطونا استمارات نوقع عليها، وأعطونا 600 ألف كي نبني لنا بها سكن"، متسائلًا: "ماذا أعمل بهذا المبلغ خصوصا وأنه لا يوجد لدي أي مصدر دخل آخر..؟".
وفيما يتعلق بالتدخلات في جانب الغذاء، قال النازح "يحيى ابراهيم عثمان خليل"، إن "الغذاء غير منتظم.. كانت منظمة الغذاء العالمي تقدمه بشكل منتظم، لكن أصبح كل ستة أشهر يأتي للأسرة 20 كيلو دقيق، وأرز غير صالح للاستخدام الأدمي".
وأضاف: "تنقصنا الكثير من مستلزمات السكن والايواء والملابس الشتوية، والغالبية يسكنون في كنتيرات ونقليات".
عن التدخلات الإنسانية، ودور المنظمات والوكالات الأممية، قال “عمر الهمداني”، إن حجم المساعدات ”قليل ولا يلبي الاحتياجات”، فمنظمة الغذاء العالمي تصرف مساعدات كل شهرين أو 4 أشهر، حسب قوله.
ويضيف: “إذا وجد دخل لدى الفرد سيغنيه عن كل شيء، وسيحميه من البرد”.
لا دواء
مع تزايد شكاوى النازحين من انعدام الأدوية، والرعاية الصحية، توجهنا إلى المركز الصحي بالمخيم، وهو عبارة عن غرفتين تفتقد لأبسط التجهيزات الصحية ولا يرقى لمسمّى مركز صحي، فلا أدوية ولا كادر ولا تجهيزات.
هناك التقينا الممرضة "رازقة العواضي"، والتي بدورها أكدت حديث النازحين، قائلة: "هذا مجرد مركز بسيط، لا يوجد فيه أدوية ولا إسعافات أولية.. هنا فقط مهدئات".
وأردفت "رازقة"، وشعور العجز يلمع في عينيها: "نستقبل أكثر من 35 حالة في اليوم ولا نستطيع تقديم العلاج لهم، فقط لدينا محلول إرواء، وشراب حمى سعال فقط، لا توجد لدينا أدوية".
وعن نوعية الحالات المرضية التي تصل إلى المركز، أوضحت أن أغلب الحالات التي تستقبلها هي "حميات وحالات إسهال بسبب البرد الشديد".
وعن احتياجات المركز، قالت إنه يحتاج إلى توفير أدوية ومختبر تحليلي، وطبيب عام، مضيفة: "أغلب الحالات لا نستطيع تقديم أي مساعدة طبية لهم، فيذهبون إلى مراكز طبية خاصة على حسابهم الشخصي".
من المركز الصحي، غادرنا المخيم، وصور المعاناة لا تفارقنا، فما لمسناه من زياراتنا أن ما يحتاجه النازحون، ليس فقط المساعدات الطارئة، بل حلول جذرية تُنهي معاناتهم، وتمنحهم أمل بالبقاء والحياة حتى يعودون لمنازلهم وقراهم التي أجبرتهم جماعة الحوثي على تركها والعيش بهذه المخيمات.
انخفاض التمويلات
حجم الاحتياجات في المخيم، أثار تساؤلات عن دور المنظمات الوكالات الأممية، فالتقينا منسق كتلة المأوى والمواد غير الغذائية بمأرب "أمين المقبول"، والذي أرجع تفاقم معاناة النازحين وضعف التدخلات، إلى "الانخفاض الحاد في التمويلات".
وقال “المقبول”، لـ"برّان برس"، إن "احتياجات الأسر النازحة إلى الدعم الشتوي كالملابس والبطانيات عالية العزل ووسائل التدفئة أمراً حيوياً، واحتياجاً ملحاً، خصوصاً الفئات الأشد ضعفاً كالأطفال، وكبار السن، والنساء والأفراد الذين يعانون من أمراض مزمنة أو إعاقة دائمة".
وعن دور الكتلة، قال "أمين"، إنها تقوم بإعداد خطة سنوية للاستجابة الشتوية حيث تسلط الضوء على حجم الاحتياجات الشتوية للنازحين ،وتحديد أولويات التدخل بالإضافة إلى حث الجهات المانحة على سد الاحتياجات الضرورية.
وأضاف: "بناءاً على تحليل كتلة المأوى في اليمن فإن ما يقارب 655000 شخص يقيمون في 30 مديرية يحتاجون الى مساعدات شتوية، من بين هؤلاء 232000 شخص معرضون لدرجة حرارة التجمد ومع ذلك فان قدرة الكتلة على الاستجابة ضئيلة".
ووفقًا لخطة العام الحالي لكتلة المأوى والمواد الغير الغذائية في اليمن، فإن إجمالي الدعم الشتوي المطلوب يقدر بـ8 مليون دولار، وفقا لمنسق الكتلة في مأرب "أمين المقبول".
غياب وذرائع
رغم الوجود الكبير للنازحين في مأرب، وتزايد الحاجة للتدخلات الإغاثية والإنسانية، إلا أن مدير الوحدة التنفيذية لمخيمات النازحين في مأرب، سيف مثنى، قال إن المنظمات والوكالات الدولية ليس لها “تواجد فعلي” في المحافظة.
ولهذا قال في تصريح لـ"برّان برس"، إن “هناك فجوة كبيرة جداً في التدخلات مقارنة بحجم الاحتياج”. فيما تحتج المنظمات بنقص التمويل بذريعة الأحداث والكوارث في البلدان الأخرى.
واعتبر “سيف مثنى”، وجود المكاتب الرئيسية للمنظمات الدولية في صنعاء الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي المصنفة دوليًا بقوائم الإرهاب، من العوائق التي تواجه العمل الإغاثي والإنساني للنازحين بمحافظة مأرب.
وقال إن “بقاء مكاتب المنظمات في صنعاء يفاقم معاناة النازحين". مضيفًا أن وجود تلك المكاتب في صنعاء تحت سيطرة الحوثي "يتيح لها العبث وعدم الالتزام بمعايير العمل الإنساني".
وجدد دعوة تلك المنظمات إلى فتح مكاتبها الرئيسية بمأرب، التي قال إنها تأوي 62% من النازحين في اليمن. مؤكدًا أهمية وضع حلول جذرية لمأوى النازحين بما يحفظ لهم كرامتهم وخصوصيتهم ويساعدهم على البقاء.
وقال: “مع بداية 2024، وبالتعاون مع السلطة المحلية وفّرنا أراضي تمليك لبناء وحدات سكنية دائمة. وتم توفير 14 أرضية وسيكون المبنى السكني عمودي”.
ولتعزيز هذا التوجه قال: "اجتمعنا مع شركاء العمل الانساني وطلبنا منهم التوجه إلى توفير مباني عمودية سكنية للنازحين نظراً لشحة الأراضي".
وتحدث عن قانون العمل الانساني الذي يفرض على المنظمات والوكالات بعد 7 أو 8 سنوات تحويل عملها من المشاريع الطارئة إلى المشاريع المستدامة.
وقال: نحن اليوم في العام الـ11 ولا زلنا في المشاريع الطارئة، مشيرًا إلى أن “هذا يفاقم الوضع الانساني للنازحين في المخيمات”.
وإجمالًا، أكد “مثنى”، أنه “لا توجد أي استجابة من قبل المنظمات الدولية لدعم المشاريع السكنية المستدامة”. مجددًا دعوة المنظمات بسرعة “التحول إلى المشاريع المستدامة”.
“مأرب” تعتمد 70 ألف ريال "حافز شهري" للمعلمين العاملين