|    English   |    [email protected]

أربعة عشر ربيعًا على وهج الثورة.. مجد فبراير وتحديات الانقلاب

الاثنين 10 فبراير 2025 |منذ يوم
ياسر الرعيني

ياسر الرعيني

تحلُّ الذكرى الرابعة عشرة لثورة 11 فبراير المجيدة، حاملةً معها عبق الحرية ونبض الإرادة الشعبية التي سطرت واحدةً من أنقى الصفحات النضالية في تاريخ اليمن المعاصر تجسيدًا لتحولات عميقة في الوعي الوطني، ورسالة واضحة بأن الشعوب قادرة على انتزاع حقها مهما كانت التحديات.

هذه الذكرى العظيمة، تحمل في طياتها دلالات سياسية ووطنية عميقة، لا يمكن اختزالها في سياق الأزمات الراهنة، بل يجب قراءتها في إطار مشروع التغيير السلمي الذي انطلق برؤية وطنية شاملة، قبل أن يتم محاولة اختطاف مسيرته بانقلاب مليشيا الحوثي في 21 سبتمبر 2014، الذي حوَّل البلاد إلى ساحة صراعٍ إقليميٍ ودوليٍ مُدمّر.  

الثورة التي انطلقت بنداءٍ سلميٍّ وطنيٍّ، كانت تعبيراً صادقاً عن تطلعات الشعب نحو بناء دولة العدالة والمواطنة المتساوية، فقد مثَّلت فبراير ذروة نضال طويل ضد الفساد والاستئثار بالسلطة، وتعزيزا لنهج الثورة اليمنية العظيمة سبتمبر واكتوبر، فاندفع الشباب إلى الساحات، حاملين حلم الدولة المدنية التي تقوم على أسس الحكم الرشيد وسيادة القانون. جاءت الثورة امتدادًا طبيعياً لتراكم طويل من التهميش والفساد، لم تكن عفوية، بل ضرورة فرضها الواقع المختل للدولة.

تميّزت الثورة في اليمن بطابعها السلمي الاستثنائي، حيث حافظ الشباب على خطابٍ وحدويٍ رافضٍ للعنف، رغم القمع الممنهج الذي واجهوه. وقد نجحت الثورة في الوصول إلى تحقيق انتقالٍ سياسيٍ توافقيٍ عبر "المبادرة الخليجية" التي أفضت إلى حوار وطني شامل بمشاركة كل المكونات السياسية والاجتماعية.

أثمر مؤتمر الحوار الوطني الشامل بمخرجات هامة، تعالج صراعات الماضي، وتؤسس لمستقبل اليمن الحديث، وهذه المخرجات التي أقرّت بـ"الدولة الاتحادية" شكَّلت وثيقةً تاريخيةً لإنهاء أسباب الصراعات الهيكلية في اليمن، ومثلت الإطار القانوني والسياسي الأكثر تقدمًا لتحقيق الاستقرار. لكن هذا المشروع تعرَّض للعرقلة بسبب انقلاب المليشيات الحوثية على الدولة في 21 سبتمبر 2014، والذي أنهى المرحلة الانتقالية، وأجهض أحلام اليمنيين بدولة القانون.  

قوضت المليشيات الحوثية في انقلابها كل التوافقات الوطنية، واغتالت تطلعات الشعب من خلال توظيفها للعنف لإعادة إنتاج استبداد جديد، أشد وطأة وأكثر عنفًا. أفضى هذا الانقلاب إلى تقويض الدولة، وتمزيق النسيج الاجتماعي، ودفع البلاد إلى أتون صراع دموي، مما يثبت أن المسؤولية عن الأوضاع الراهنة تقع على عاتق قوى الانقلاب، لا على ثورة كانت غايتها بناء دولة حديثة تليق بتضحيات شعبها.

وفي هذا السياق، فإنه من الضروري التمييز بين الثورة السلمية ذات المشروع الوطني، وبين الفوضى التي اوجدها الانقلاب. فالثورة لم تكن يومًا سببًا في الأزمة، بل كانت الضحية الأولى لتحالفات القوى المضادة للتغيير، سواءً من نظام ما قبل 2011 الذي رفض معالجة الاختلالات، أو من المليشيات التي استغلت الفراغ الأمني لتحقيق مكاسبها والتي تعتبر امتداداً للهاشمية السياسية التي تغلغلت في مفاصل الدولة منذ قيام الجمهورية، وأشعلت في العقود الأخيرة ستة حروب لإسقاط الجمهورية.
إن اتهام الثورة بما آلت إليه الأوضاع يُعدّ تشويهًا للحقيقة التاريخية، ويتجاهل حقيقة أن اليمن كان قبل الانقلاب على أعتاب تحول حقيقي لبناء الدولة المدنية الحديثة، بدليل الإجماع الوطني والتأييد الدولي والإقليمي لدعم مخرجات الحوار الوطني، والتي لم تُلغِها إلا مليشيات مسلحة رفضت الخضوع لإرادة الشعب، وقد ساندها اابعض في حينه نكاية بالثورة وهو ما اوصلنا الى ما نحن فيه اليوم، ومع ذلك فقد قبلت الثورة توبة من ساند انقلاب الحوثي واحتضنتهم بعد أن عادوا لصفها في مواجهة الانقلاب.

تأتي الذكرى الرابعة عشرة في ظلِّ ظروفٍ معقَّدةٍ، لكنها تبقى فرصةً لتأكيد عدد من الثوابت، أهمها أن شرعية الثورة مستمدة من شعبها الثائر وأهدافها السلمية، والتي لا تزال تشكل أساسًا لأي حل سياسي شامل.  كما أن المسؤولية عن الأزمة تقع على عاتق تحالف قوى الانقلاب التي دمّرت الدولة، وليس على الثورة أو مطالبها العادلة. يضاف إلى ذلك أن مخرجات الحوار الوطني تظل المرجعية التوافقية لإعادة بناء الدولة، وهو ما تم التأكيد عليه في كل مفاوضات السلام.  

رغم محاولات طمس وهج فبراير، تبقى الثورة عنوانًا لليمن الذي حلم به ملايين الشباب: وطنٌ تتسع فيه المساحاتُ السياسية للجميع، وتُحترم فيه كرامة الإنسان. فالثورة لم تفشل، بل تواجه تحديات هي اليوم تعالجها، كما أن هذه الذكرى تأتي كتذكيرٍ بأن النضال من أجل الحرية والكرامة لا يمكن أن يُطوى بحدثٍ عابر، بل هو مسيرة ممتدة لا تتوقف حتى تتحقق أهدافها. فالتحدي اليوم لا يكمن في إحياء الذكرى، بل في إحياء المشروع الوطني الذي تجسّده الثورة، عبر استعادة الدولة من قبضة المليشيات، وإعادة اليمن إلى مساره الديمقراطي. ويجب أن تكون هذه المحطات مناسبة لمراجعة الذات، فالثورات لا تموت حين تواجه التحديات، بل حين ينسى أبناؤها لماذا خرجوا.

إن استعادة الدولة، وبناء اليمن الحديث الذي نادت به ثورة فبراير مهمة وطنية، تستوجب من كافة القوى الحية في المجتمع اليمني التمسك بمبادئ الثورة، وإعادة الاعتبار لمخرجات الحوار الوطني باعتبارها الوثيقة الجامعة التي تُمثِّل الضامن الوحيد لخروج اليمن من أزمته الراهنة. 
اليوم، على القوى السياسية أن تختار: إما أن تكون جزءًا من حلٍّ يعيد لليمن كرامته وهيبته، أو أن تظلّ حلقة في سلسلة الانهيار. 

ليست المهمة سهلة، لكن دروس الماضي تقدم خارطة طريق، وتؤكد ضرورة عدم التضحية بالمبادئ من أجل مصالح آنية كما حدث في تحالف بعض القوى مع المليشيات ضد خصومهم، مما عمّق الأزمة. إضافة إلى أهمية التعلم من نجاحات هامة فتجربة الحوار الوطني على سبيل المثال أثبتت أن اليمنيين قادرون على الاتفاق حين تُؤَمّن بيئة حيادية. كما يجب إعادة الاعتبار لـ"الثورة السلمية" كمرجعية أخلاقية، إذ إن تحديات تنفيذ المشروع الوطني المتمثل بمخرجات الحوار الوطني خلال الفترة الماضية ، لا يعني فشل الفكرة، بل يعني أن تنفيذها لا يزال يحتاج إلى إرادةٍ جادة.  

يبقى الرهان على وعي الشعب اليمني الذي خبر دروس الماضي، وأدرك أن استعادة الدولة يتطلب صمودًا مستمرًا لا يتزعزع أمام كل محاولات الارتداد إلى الاستبداد. إن الثورة، وإن واجهت بعض التحديات، تبقى فعلًا متجددًا في الوجدان الشعبي، ولن تنطفئ جذوتها ما دام هناك من يؤمن بالحرية والعدالة والكرامة الوطنية.

ختامًا، من الخطأ الكبير أن يحول البعض ذكرى ثورة 11 فبراير المجيدة إلى ميدان للمناكفات السياسية وتعميق الخلاف بين القوى الوطنية المناهضة للانقلاب، فهذه المحطات التاريخية يجب أن تكون فرصة للتأمل والتقييم الصادق، لا أن تتحول إلى ساحة لتصفية الحسابات وإثارة الانقسامات. فالثورات لا تختزل في أخطاء الأفراد أو تعثر وإخفاقات المراحل، بل تظل ملكًا للشعوب، وإرثًا عظيمًا لكل من آمن بمبادئها وسعى لتحقيق أهدافها.

وعليه، فإن المسؤولية الوطنية تقتضي أن نستلهم من هذه الذكرى دروس الوحدة والتكاتف، لا أن تُستغل لتمزيق الصف الجمهوري وإضعاف جبهة استعادة الدولة. فلا انتصار على مشروع الانقلاب والاستبداد دون جبهة وطنية متماسكة، قادرة على تجاوز خلافاتها، وتقديم مصلحة اليمن فوق كل الاعتبارات الحزبية والشخصية.

إن الثورات والمحطات الوطنية الكبرى يجب أن تكون فرصة لتصحيح المسار، والاستفادة من التجارب، والتعالي على المصالح الضيقة، فالمُنجز الوطني لا يمكن أن ينهض في بيئة يسودها الشقاق والتناحر. ولعل من أهم دروس التاريخ أن الانقسامات الداخلية تُمثل الثغرة الأخطر التي تتسللت منها المشاريع الهدّامة، ولهذا فإن الاحتفاء الحقيقي بثورة فبراير يكون عبر إعادة الاعتبار لمبادئها الجامعة، واستثمار روحها النضالية في تقوية الصف الوطني، وتوجيه الجهود نحو استعادة الدولة، وتحقيق الحلم الذي خرج اليمنيون من أجله.

*ياسر الرعيني.. رئيس المنسقية العليا للثورة اليمنية (شباب)