|    English   |    [email protected]

من أنقرة إلى دمشق.. واشنطن تعلن نهاية التدخل أم تعيد تشكيله؟

السبت 31 مايو 2025 |منذ يوم
توفيق الحميدي

توفيق الحميدي

عندما يُعلن سفير الولايات المتحدة في تركيا، والمبعوث الخاص لسوريا، أن “عصر التدخل الغربي قد انتهى”، فإننا لا نواجه مجرد تصريح عابر يُقال في لحظة دبلوماسية، بل نكون أمام جملة تحمل وزنًا رمزيًا تاريخيًا يربط الحاضر بالماضي الاستعماري الثقيل. فهذا التصريح لا يكتفي بالإعلان عن نهاية التدخلات الغربية، بل يذهب أبعد حين يدين صراحة خطيئة سايكس-بيكو، تلك الاتفاقية التي اقتسمت جسد المشرق العربي بعد الحرب العالمية الأولى، ويرفض صيغ الانتداب والحكم الأجنبي التي سادت تحت مظلتها. وكأن السفير الأمريكي يريد أن يقول للعالم إن واشنطن قد أدركت خطايا الماضي، وأنها لا تريد أن تكرّرها في الحاضر. لكن، هل هو اعتراف حقيقي بسقوط النموذج الإمبريالي التقليدي؟ أم مجرد إعادة تغليف للمصالح الأمريكية ضمن سردية جديدة أكثر مرونة؟ هنا، يبدأ التحليل الحقيقي، لأن مثل هذه التصريحات لا تُقرأ فقط بما تقوله علنًا، بل بما تتركه بين السطور وما تلمّح به للمستقبل.

اللافت هنا أن التصريح لم يصدر من أي موقع دبلوماسي أمريكي عابر، بل جاء من سفير أمريكا، الجار الشمالي لسوريا، وفي الوقت نفسه المبعوث الخاص إلى سوريا، البلد الذي تركزت عليه اتفاقية سايكس-بيكو، وتحولت حدوده وخريطته منذ ذلك الحين إلى ساحة مفتوحة لصراعات القوى الكبرى. سوريا ليست مجرد حالة من الماضي، بل ما زالت حتى اليوم مرآة لآثار ذلك التقسيم، بحروبه وانقساماته وهشاشته البنيوية. لذا فإن اختيار السفير الأمريكي توجيه هذه الرسائل من تركيا يحمل دلالات عميقة، سياقية وتاريخية وسياسية ومرحلية معا، وكأن واشنطن تريد التذكير بأنها تمسك بخيوط اللعبة في النقطة التي بدأ منها كل شيء: دمشق، حلب، أنقرة، ومن ورائهما موسكو وطهران. ما يبدو اعترافا بالماضي قد يكون في الحقيقة رسمًا محسوبًا للمستقبل.

حين يتحدث السفير عن سايكس-بيكو كخطيئة، يوحي بأنه يقفز فوق شراكة أمريكا التاريخية في النظام الذي أنتجته تلك الاتفاقية. فسايكس-بيكو ليست مجرد خطأ بريطاني-فرنسي، بل هي إرث انتقل لاحقًا إلى أمريكا التي ورثت الدور الغربي في المشرق بعد الحرب العالمية الثانية. وبالتالي، فإن هذا الاعتراف لا يعبّر بالضرورة عن نية في إعادة تفكيك الخرائط المرسومة، بل هو محاولة لتثبيتها عبر تطبيع واقع التقسيم تحت عنوان الشراكات الإقليمية. لا تغيير تاريخي هنا، بل شرعنة للأمر الواقع، أو بالأحرى، إعادة تعليب سايكس-بيكو ضمن صندوق جديد أكثر نعومة وبراغماتية.

وهنا يبرز سؤال عميق آخر: هل يستعيد الأمريكيون اليوم صراع النفوذ الذي اشتعل بين الولايات المتحدة وبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية حول السيطرة على الشرق الأوسط؟ ففي تلك المرحلة المفصلية، انتقل مركز الثقل من النفوذ البريطاني التقليدي إلى الصعود الأمريكي، مرورا بإنشاء هياكل مثل “مركز الشرق الأوسط” الذي أسس لمشاريع إعادة التمويل والتنظيم في المنطقة، ثم وصولًا إلى مؤتمر “بالتيمور” بشأن مستقبل فلسطين، وهو الحدث الذي مهّد الطريق لإعادة رسم الخريطة السياسية بما يخدم مصالح واشنطن لا لندن. لكن ربما كانت لحظة التحول الكبرى هي ضرب النفوذ النفطي البريطاني المباشر: السعودية اختارت أمريكا حليفًا استراتيجيًا على حساب بريطانيا، مما قاد إلى تأسيس شركة أرامكو العملاقة، وإيران بدورها قفزت إلى مشهد تأميم النفط البريطاني، موجّهة بذلك واحدة من أقسى الضربات للهيمنة البريطانية التاريخية. اليوم، حين تلوّح واشنطن بخطابات نهاية التدخل وإعادة ترتيب النفوذ، فهي لا تتحرك في فراغ، بل في سياق طويل يعيد فتح بوابات صراع الهيمنة، وهذه المرة في مواجهة لاعبين جدد مثل روسيا والصين، لا بريطانيا فقط.

وهذا ما أكده بوضوح نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس خلال خطابه في حفل تخرج دفعة 2025 من الأكاديمية البحرية الأمريكية، حين قال: “أهم جزء من رحلة الرئيس ترامب للسعودية وقطر والإمارات هو تأكيده على انتهاء عقد التدخل بالشؤون الداخلية للدول كسياسة خارجية للولايات المتحدة.” وأضاف: “لقد مررنا بتجربة طويلة في سياستنا الخارجية حيث استبدلنا الدفاع الوطني والحفاظ على تحالفاتنا ببناء الأمم والتدخل في شؤون الدول الأجنبية، ما نراه من الرئيس ترامب هو تحول جيلي في السياسة.”

ما يعنيه هذا أن التصريحات الصادرة من السفير الأمريكي في تركيا ليست مجرد اجتهادات دبلوماسية أو مواقف فردية، بل هي انعكاس مباشر لتوجه يأتي من أعلى هرم السلطة في واشنطن. نحن أمام تحوّل استراتيجي تُقرّه القيادة الأمريكية العليا، ينقل أمريكا من منطق التدخل وبناء الدول وإعادة هندسة الأنظمة من الداخل، إلى منطق الحفاظ على التحالفات، إدارة المصالح، وضبط الإيقاع الإقليمي من الخلف. بعبارة أخرى، السياسة الخارجية الأمريكية تدخل مرحلة جديدة أقل اندفاعا وأشد براغماتية، وهو ما يعيد رسم طبيعة الدور الأمريكي في المنطقة وفي العالم ككل.

وهنا يطرح السؤال نفسه: هل يدفن ترامب مشروع الفوضى الذي غذّته الإدارات الأمريكية السابقة، خاصة في العقدين الماضيين؟ ترامب، في خطابه السياسي وخياراته الإقليمية، كرر تمجيده لنموذج بناء الدول المستقرة في الخليج، وصرّح أكثر من مرة أن الاستقرار وحده—not الديمقراطية ولا حقوق الإنسان—هو الذي يجلب المال للخزينة الأمريكية. لهذا يسعى لإعادة التصالح مع كل الأطراف، بما في ذلك الخصوم التقليديين، بشرط واحد: أن يتوقّف نزيف الفوضى الذي يهدد تدفقات النفط والغاز وحركة المال الإقليمي. لكن السؤال العميق هنا هو: ما هو المشروع الجديد؟ هل هو استقرار بأي ثمن؟ هل هو صفقات فوق الطاولة وتحتها تُغلق ملفات الإصلاح السياسي لصالح اقتصاد قوي يُرضي الطرفين؟ في هذا المشهد، يبدو أن ترامب، ومن خلفه جزء من النخبة الأمريكية، يراهنون على معادلة جديدة: الشرق الأوسط المستقر ولو على حساب الديمقراطية، الشرق الأوسط المربح ولو على حساب الكرامة السياسية للشعوب

وسط هذه التحولات، يبرز سؤال لا يقل أهمية: هل ستلعب دول الإقليم، مثل تركيا ودول الخليج، دورًا محوريا في المرحلة القادمة خاصة مع الاتجاه الأمريكي لتحجيم نفوذ إيران؟ المؤشرات تقول نعم، لكن الثمن قد يكون باهظًا على جبهة أخرى. فواشنطن، في مقاربتها الجديدة، لا تضع الديمقراطية وحقوق الإنسان على رأس الأولويات، بل تضع الاقتصاد والاستقرار الأمني في المقدمة. بمعنى آخر، يمكن أن نشهد تسويات كبرى تُغلق ملفات الإصلاح السياسي مقابل تعزيز الاستثمارات، ضمان تدفقات الطاقة، وتأمين شبكات التجارة الإقليمية. تركيا والخليج، باعتبارهما حلفاء أساسيين في ضبط الإيقاع الإقليمي، سيُمنحان هامشًا أوسع للتحرك، لكن هذا الهامش لن يكون بالضرورة هامشًا ديمقراطيًا، بل هامشا اقتصاديا وأمنيا بامتياز. اللعبة القادمة إذا ليست لعبة قيم ومؤسسات، بل لعبة مصالح وأرقام وصفقات، حيث تُقرّر واشنطن مع من تعيد تقاسم النفوذ، ومع من تُهمّش ملفات الديمقراطية، طالما أنها تحصل على ما تريد من استقرار سوق النفط وضبط الجغرافيا السياسية.

الحديث عن انتهاء التدخل الغربي لا يعني انسحابًا كاملاً أو تخلّيًا عن المصالح. بل هو إعلان عن نهاية مرحلة التدخلات العسكرية الفوضوية، كما حدث في العراق وليبيا، مقابل هندسة جديدة ترتكز على الشراكات الإقليمية، خصوصًا مع تركيا والخليج وأوروبا، لإدارة ملفات المنطقة بأقل كلفة ممكنة. أمريكا، وفق هذا الخطاب، تريد أن تكون قائدًا لا جنديًا، شريكًا لا محتلاً، منسقًا لا فاعلًا مباشرًا. لكنها تظل في القلب من معادلة النفوذ، ومن هنا يظهر البُعد المزدوج لهذا الخطاب: تطمين الحلفاء الإقليميين من جهة، والضغط عليهم لتحمّل عبء أزماتهم من جهة أخرى.

وهنا يبرز السؤال الحاسم: ما الذي سنكون أمامه لو تلاشى سايكس-بيكو؟ هل هو مجرد استشهاد بالتاريخ من قبل الأمريكي لدى سوريا، أم أنها إشارات لمستقبل مختلف؟ لو تلاشى سايكس-بيكو فعلًا، فإننا لن نكون أمام مجرد سقوط لاتفاقية عمرها قرن، بل أمام زلزال يعيد تفكيك الخرائط والهويات والنظم السياسية التي بُنيت فوقها. لكن السؤال الحقيقي: هل يشير الخطاب الأمريكي إلى هذا السيناريو الجذري، أم أنه مجرد استدعاء رمزي للتاريخ؟ في عمق القراءة، يبدو أن استشهاد السفير الأمريكي بسايكس-بيكو ليس دعوة إلى هدم النظام الإقليمي القائم ولا إلى تفكيك الدول الوطنية التي نشأت فوق خطوط تلك الاتفاقية، بل هو تلويح محسوب لإعادة ترتيب الأوراق بما يخدم مصالح واشنطن. الحديث هنا لا يدور حول انهيار الخرائط الجغرافية، بل حول إعادة هندستها سياسيًا واقتصاديًا لتتناسب مع ميزان القوى الجديد. بمعنى آخر، نحن لسنا أمام لحظة “ما بعد سايكس-بيكو” بمعناها الثوري، بل أمام محاولة أمريكية لاستباق التحولات عبر التلويح بتاريخ التقسيمات القديمة، كي تُمسك بزمام المرحلة القادمة وتمنع الآخرين، كروسيا والصين وإيران، من استثمار فراغات المنطقة. هذه الإشارات إذًا، رغم لغتها التاريخية، تحمل ملامح مستقبل مختلف: ليس في الخرائط المرسومة، بل في طرق السيطرة عليها.

إذا صحت مؤشرات التقارب التركي-الكردي، فإننا أمام منعطف استراتيجي حقيقي. لأن أي تسوية تركية مع الأكراد ستفتح الباب لتفكيك واحدة من أعقد الأزمات التي تؤجج النزاعات الإقليمية. تركيا التي لطالما رأت في الأكراد تهديدًا وجوديًا قد تجد نفسها مضطرة للبحث عن تسوية داخلية تريح جبهتها الجنوبية، وتتيح لها لعب دور أكبر في ترتيبات شمال سوريا. هذا التصالح، إن تحقق، يمكن أن يشكّل نموذجًا يُحتذى في العلاقة مع الأقليات، من الكرد في سوريا إلى الطوائف في لبنان وحتى الفلسطينيين داخل إسرائيل. لكنه مسار طويل وشائك، لأن التغيير لا يأتي فقط من الإرادة السياسية، بل يتطلب تحولات جذرية في عقل الدولة التركية، وفي مقاربة المنطقة كلها لمعنى الأقليات وحقوقها.

في المحصلة، لا يمثل تصريح السفير الأمريكي مجرد لحظة خطابية عابرة، بل هو مرآة تعكس تحولات أعمق في بنية النظام الإقليمي والعالمي. هو تلميح لا لانتهاء عهد سايكس-بيكو، بل لإعادة هندسته بأدوات اقتصادية وتحالفات سياسية أكثر نعومة وأقل كلفة. نحن أمام شرق أوسط يُعاد ترتيب موازين قوته لا عبر الانقلابات الكبرى، بل عبر التفاصيل: عبر الغاز والموانئ والشبكات العابرة للحدود. أميركا لا تنسحب، لكنها تغيّر وجهها؛ القوى الإقليمية لا تتحرر، لكنها تُدعى لتحمّل عبء أزماتها؛ والخريطة لا تمحى ، لكنها تُعاد كتابتها بحبر المصالح. لحظة اليقظة الكبرى ليست في ما يُقال علنًا، بل فيما يُدار خلف الكواليس، وما تتركه أمريكا بين السطور: هل تدعو الآخرين لصناعة مصيرهم، أم تدعوهم فقط لتقاسم العبء بينما تظل هي المايسترو الخفي؟