رواية الغريب.. صراع العبث واليقين في مواجهة الوجود

محمد نبراس العميسي
على الرغم من أنني قرأتها مرتين على التوالي ثم ناقشتها مع أصدقاء القراءة الجماعية، إلا أنني إلى الآن لم أستوعبها بشكلٍ كامل، إنها رواية "الغريب"، نافذة الفلسفة إلى عبثية الحياة، وأبرز ما أنجب الأدب في القرن العشرين، وأولى روايات ألبير كامو. هذه الرواية سبرت أغوار الفلسفة العبثية وطرحت تساؤلات وجودية حول جدوى الحياة في عالم يفتقد إلى الترابط المنطقي، باستخدام تكثيف في السرد وشخصيات غرائبية تحمل التناقضات.
"اليوم، ماتت أمي، أو ربما ماتت البارحة، لست أدري" - هنا يظهر بطل الرواية مورسو، الذي يبدو غير مبالٍ بموت والدته. وظلت اللامبالاة ترافقه حتى في تشييع جنازة أمه، حيث انشغل بتفاصيل الطقس المشمس ومراقبة المشيعين أكثر من مراسم التشييع والدفن. عاد إلى عمله في اليوم التالي للدفن، ترافقه اللامبالاة التي جعلته لا يكترث بفرصة الترقية التي يعرضها رئيسه في العمل.
تنقل "الغريب" فلسفة كامو العبثية، حيث يعاني البشر من انعدام المعنى وضبابية الحياة، وكل الديانات والعلم والفلسفات لا يقدمون إجابات يقينية ونهائية للوجود. هذا ما جعل مورسو يعيش في عالم لا يأبه به، وتتجلى عبثيته الباردة مع أحداث مصيرية كوفاة الأم.
مورسو متحرر من أي التزام عاطفي أو وجداني أو قيمي، وحتى في علاقته العاطفية مع ماري حافظ على الحياد العبثي تجاه مبادرة ماري التي لا أظن أن يرفضها أو يتنصل منها أحد.
تبدأ أحداث الرواية في التصاعد، حيث تنشأ المعرفة بين مورسو وجيرانه: سالامانو، الرجل العجوز الذي يفقد كلبه ويبكي عليه بكاءً حاراً، ويتعرف أيضاً على ريموند الشرير الذي أقنع مورسو بالانتقام من صديقته التي يتهمها بالخيانة.
تحتد أحداث الرواية وتصل إلى المواجهة المباشرة والعراك مع شقيق الفتاة على الشاطئ، حيث يرتكب مورسو حماقة إطلاق النار عليه وهو يرجع السبب إلى الشمس الحارقة. يسجن على إثرها، وطيلة فترة المحكومية وهو غير مبالٍ بشيء ولا يتسرب إليه الندم. وفي المحاكمة حافظ على تماسكه بمشاعر باردة، فعل ذلك وهو يتذكر أنه لم يبك في جنازة والدته وواصل حياته غير مكترث بشيء، وحتى إنه وقف أمام محاولات المحامي الذي يريد أن يسعى لإنقاذه قبل أن يُنفذ في حقه حكم الإعدام.
في اللحظات الفارقة بين الموت والحياة، عادةً ما يصاب المرء بالرعدة والخوف وهنا لابد أن يبحث عن مسكنات يقينية من أي نوع. وهنا يظهر رفض آخر من مورسو أمام الكاهن في صالة الانتظار، حيث حرص الأخير على جعله يتوب؛ لكنه رفض الاعتراف بأي خطيئة، وحتى الإيمان بالله رفضه كذلك، وهاجم الكاهن بإصرار. وحتى في لحظات الإعدام واجه مورسو الموت بكل شجاعة ودونما اكتراث، مختتماً حياته بعبثية الحياة التي عاشها منذ البداية.
أقل ما يمكنني أن أقوله في حق الرواية، أنها رواية تحريض، تحرض العقل على البحث عن المعنى، وعن إجابات لأسئلة كثيرة. وبين البحث عن معنى وإجابات، ينشأ تناقض يولد شعور بالوحشة والفراغ والسخافة والحقارة. الإنسان في حقيقته كائن فضولي ومتطفل يطرح أسئلة مصيرية حول وجوده الإنساني، ومركزه في هذا الوجود، والكون لا يقدم إجابات جاهزة مباشرة. كامو أراد أن ينوب عن الكون في تقديم إجابات من جهة، ومن جهة أخرى أن يكشف الستار عن هذا الصمت والتعمية، مما جعل الإنسان يشعر بغرابة الحياة وسخافتها، وخلق بداخله فجاجة يواجه بها ديمومة البقاء.
نجد المعنى عند كامو مختلف عن نيتشه. نيتشه يقول أن فقدان المعنى يقود المرء إلى العدمية لانتفاء القيم الأخلاقية النبيلة والغائية؛ لكن كامو يرفض الإقرار بهذا المنطق. هذا الرفض جعله يقنعنا بالقبول بعبثية الحياة والتوقف عند ذلك، ومنعنا من السعي لتبريرها وخلق معانٍ مخاتلة. يرى كامو أن التسليم بالعبث والضياع هو أول الطرق إلى انعتاق وتحرير الإنسان وجعله يعيش الحياة بصدق وتحدٍ، معتبراً أن الحياة تستحق العيش رغم كارثيتها وعبثيتها.
في الرواية لا يوجد بحث عن مبرر للوجود؛ لأن البطل مورسو نفذ ما يريده كامو بدقة متناهية، وأظهرت الرواية أقصى درجات العبثية أمام حتمية الموت. بالعودة إلى مورسو، نجد أن تشبثه بهذا العبث جعله يتصالح مع الحياة، ورفض بشدة إضافة أي تفسير من شأنه أن يجعلها صادقة. من الجميل أن يعيش الإنسان المعنى ويتشبث بلحظات الفرح كيفما جاءت ومهما بدت طارئة وعابرة وسريعة الزوال.