المهندس الشاب حسام السمدة.. الشاهد والشهيد في معركة تحرير اليمن

فؤاد مسعد
مؤخراً حصلتُ على كتاب "إصبع على الزناد" الذي يوثق يوميات الشهيد/ حسام عبدالخالق السمدة، الشاب المثقف الأديب الأريب الذي قضى نحبه شهيداً بداية نوفمبر 2017، حينها برز اسم الشهيد باعتباره أحد الأبطال الذين يقدمون أرواحهم الطاهرة ودماءهم الزكية دفاعاً عن الأرض والحرية، في مواجهة عصابة البغي والإجرام الحوثية.
ذاع نبأ استشهاد حسام ومعه وصيته الشهيرة التي كشفت عن وعي ويقين ثوري وثقافة أصيلة مقرونة بالعمل والتضحية، ولم يكن كثير من المفجوعين برحيله يعرفون أنه صاحب الرمز (ح. ع) الذي كان ينقل للكاتب المعروف الدكتور مروان الغفوري يوميات الدفاع عن العاصمة صنعاء في اللحظات الأخيرة قبيل سقوطها في يد المليشيات الحوثية في سبتمبر 2014.
كان حسام مع ثلاثة من رفاقه هم آخر من بقي في جبهة الدفاع عن صنعاء بعدما قرر الكبار تسليم كل شيء للمسلحين الذين كانوا يحاصرون حسام ورفاقه في حي صوفان، بعدما رفضت حراسة معسكر الصيانة السماح لهم بالدخول لتأمين أنفسهم.
بعد قراءتي للكتاب أيقنت أن حسام كان يعد نفسه للشهادة منذ زمنٍ طويل، لذا فقد كان مسكوناً بالهم الوطني رغم صغر سنه، غير أنه لم يكن عازفاً عن الحياة أو معتزلاً لها، فقد التحق بجامعة حضرموت ودرس الهندسة وحصل على الوظيفة المناسبة لمؤهلاته التي لم تقتصر على الشهادة الجامعية، فقد التحق بعشرات الدورات لتنمية مهاراته وقدراته في مجال تخصصه.
حسام المولود في يوليو 1989 التحق بالثورة الشعبية عام 2011، وكثيراً ما سجل آراءه وقناعاته وأفكاره حول الثورة في حسابه على فيسبوك، مؤكداً إيمانه بالثورة وأهدافها النبيلة، وكان يتتبع ما يجري من أحداث وما يستجد من وقائع، يشيد بما يستحق الإشادة من وجهة نظره، ووفقاً لرؤيته الخاصة، دون أن يكف عن النقد لما يرى أنه يستحق النقد، وهو في ذلك كله يعبر عن وعي مرتبط بالمثقف العضوي الذي تدفعه ثقافته لمشاركة مجتمعه ومحيطه، بما يتحلى به من شجاعة أدبية تفوق عمره بسنوات عديدة.
كان يكتب في منشوراته آراءه وانطباعاته، ونصوصاً إبداعية تنم عن كاتب متميز، بدا أنه قرأ كثيراً في الأدب والشعر والتاريخ والفلسفة، وفي كتاباته تجلت آثار قراءته الواعية، و"كل كاتب جيد هو بالطبع قارئ جيد"، وكذلك كان حسام المثقف والأديب الذي يسابق الزمن بروح ثائرة وعزيمة فتية.
عندما بلغ عمره 25 سنة مطلع يوليو (2014)، كان حسام - والبلد بأكمله -على موعد مع سقوط عمران في أيادي الحوثيين، واستشهاد القائد حميد القشيبي، وهو الحدث الذي سيغير مجرى الأحداث وسيكون له الأثر الأبرز في توجيه خياراته صوب الغاية السامية التي كان يعد نفسه لها، خاصة وأنه كان يرى في الشهيد القشيبي نموذجاً لقائد تاريخي في معركة مصيرية لا مجال فيها للمساومة وأنصاف الحلول. واختار أن تكون كنيته (أبو حميد)، تيمناً بحميد القشيبي الذي قال "إن السماء بكت يوم تشييعه".
بعد ذلك بشهرين كان حسام وزملاؤه يقفون في حي صوفان بجانب معسكر الصيانة، كان المسلحون الحوثيون ينتشرون في الجوار، وأغلب المنازل المحيطة بهم كان يوجد فيها قناصون يترصدون أي حركة مناوئة، وبعد ربع ساعة من وصولهم إلى المنطقة بدأ القصف والضرب من كل الاتجاهات، وقبل حلول الظهيرة بدأ الجنود ينسحبون لأن قائدهم هرب وأغلق تلفوناته بعدما أخذ الذخيرة معه، ولم يبق سوى شباب "الإصلاح" المتطوعين للدفا عن صنعاء، وعددهم 20 فرداً، كان حسام أحدهم.
بعد ساعات جرح بعضهم ولم يصلهم أي إمداد أو تموين، خاصة وأن ذخيرتهم أوشكت على النفاد، جاء صاحب سيارة ووافق على نقلهم، وتم انسحابهم على دفعتين، ليبق حسام وثلاثة معه في مواجهة جحافل مسلحة كانت تنتشر في المنطقة مثل الجراد، وبعدما اقتربت الجحافل من الشباب ظهرت السيارة التي تطوع صاحبها بمهمة النقل رغم خطورته، ونجا حسام ورفاقه من الموت، يقول حسام في ختام رسالته التي وثقت لحظات سقوط صنعاء: "نجونا بأرواحنا من الموت المحقق، لكننا أدركنا أننا فقدنا ما هو أعظم من أنفسنا.. لقد فقدنا وطننا وفقدنا جيشاً كنا نثق به.. لم يتبق هناك سوى ذكرياتنا الحزينة ودماء أصدقائنا الجرحى".
وردّ الغفوري عليه قائلاً: "سينتقم لك التاريخ على طريقته، وستتذكر تلك اللحظات، وأنت أمام معسكر الصيانة، وستشعر بالفخر لأنك كنت هناك يوماً مع ثلاثة من رفاقك تحرسون شرف صنعاء عندما كانت صنعاء، كل صنعاء نائمة، لا تشعر حتى بكم، وكان جيشها يستعد للنوم كعادته".
كانت تلك معركة في حرب طويلة قرر حسام أن يخوضها دفاعاً عن اليمن والثورة والجمهورية، التحق بالجيش الوطني وحمل السلاح مرة أخرى في مواجهة مليشيات الموت والخراب.
في قمة جبل الصافح في سلسلة جبال نهم كتب حسام وصيته الأخيرة، في خريف العام 2017، كان ذلك بعد أيام قليلة من ولادة ابنته "نبض" التي أفرد لها حيزاً مهماً في وصيته، وهي الآن تدخل عامها السابع محققة تفوقاً يليق بها في المدرسة، فخورة بكونها ابنة شهيد أوصاها بأن تقرأ كثيراً لكي تدرك معنى أن يكون والدها شهيداً قدم روحه من أجل الوطن.
وقد شاءت إرادة الله تعالى أن يقضي والدها شهيداً بعيداً عنها وعن أمها وبقية أسرته التي كانت تنتظر لحظة اللقاء به، لقد حال استشهاده دون اللقاء بـ"نبضـ"ــه وأحبابه، وعزاؤهم أنه مضى للغاية التي طالما تمناها، وسيبقى خالداً في الذاكرة بما تركه من أثر طيب وسجل حافل بالتضحية.
في الختام نوجه تحية لأسرة الشهيد حسام، وفي المقدمة والده الأكاديمي الدكتور/عبدالخالق السمدة أستاذ العلوم السياسية، وكثيراً ما أعرب الشهيد عن امتنانه الكبير لوالده وافتخاره الدائم به، وسعيه الدؤوب لأن يجعل والده فخوراً به، وهو بلا شك فخور بشاب استثنائي كان يحرس صنعاء في الليلة التي خذلها الجميع، وكان حينها الشاهد على لحظة السقوط، ثم غدا هو الشهيد في سبيل تحرير اليمن، فنعم الشاهد ونعم الشهيد، ونعمت الأسرة الطيبة والمناضلة التي أنجبت حسام وهي اليوم ترعى "نبض" لتسير على درب والدها وجدّها، الدرب الذي سار عليه الزبيري وعلي عبدالمغني والقشيبي والشدادي وشعلان وبقية الكوكبة الثائرة والمناضلة في سبيل اليمن وحريته وثورته وجمهوريته.