معاوية ابن أبي سفيان كتجربة تاريخية تأسيسية

توفيق الحميدي
معاوية بن أبي سفيان شخصية محورية في التاريخ الإسلامي، ليس فقط بصفته صحابيًا من كتّاب الوحي، بل باعتباره سياسيًا محنكًا استطاع أن يؤسس أول دولة إسلامية مستقرة بعد فترة الخلافة الراشدة. لقد مثّلت الدولة الأموية التي أسسها تحوّلًا نوعيًا في طبيعة الحكم الإسلامي، حيث انتقلت الخلافة من نموذج الشورى المحدود إلى نظام ملكي وراثي، وهي مرحلة لا يمكن قراءتها إلا في سياقها التاريخي، بعيدًا عن الأحكام المسبقة والمناكفات الفكرية التي تبتعد عن جوهر العبرة والاستفادة من التجربة.
الدولة الأموية في ضوء “مغامرة الإسلام الأولى”
في كتاب مغامرة الإسلام الأولى، يتناول المؤرخ مارشال هودجسون التحولات الكبرى التي شهدها الإسلام في بداياته، ومنها نشوء الدولة الأموية. يرى هودجسون أن معاوية لعب دورًا رئيسيًا في انتقال الإسلام من مجتمع قبلي إلى قوة سياسية عالمية، حيث ساهم في بناء جهاز إداري قوي مستفيدًا من تقاليد الحكم البيزنطي والساساني، مع الحفاظ على الطابع الإسلامي للدولة. الدولة الأموية لم تكن مجرد استمرار للخلافة الراشدة، بل كانت محاولة لصياغة نموذج حكم يجمع بين البيروقراطية الفعالة والطابع الإسلامي، وهو ما شكّل بداية تأسيس الإمبراطوريات الإسلامية الكبرى التي تبعتها.
وإن محاولة فهم الدولة الإسلامية بدون النظر إلى تأثير معاوية واستفادته من التجارب السابقة، خاصة البيزنطية، يُعد تحديًا كبيرًا.
يصعب تصور قيام دولة إسلامية مستقرة دون النموذج الإداري والسياسي الذي أسسه معاوية بن أبي سفيان. فقبل معاوية، كانت هناك محاولات لتأسيس دولة إسلامية، لكن طبيعة الحكم في الجزيرة العربية ظلت أقرب إلى النموذج القبلي. سعى الإسلام في بداياته إلى تجاوز هذا الإطار، معتمدًا على المبادئ الدينية والشورى، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا وحده لصياغة دولة مستقرة بمفهومها الإداري والتنظيمي.
معاوية بن أبي سفيان جاء ليشكل المرحلة الثالثة والحاسمة في تطور الدولة الإسلامية، حيث وضع أسس إدارة تعتمد على البيروقراطية الفعالة والخبرة السياسية، مستفيدًا من النظم الإدارية التي كانت قائمة في الإمبراطوريات السابقة، خصوصًا البيزنطية والفارسية. هذا النهج لم يكن مجرد اجتهاد شخصي، بل كان ضرورة فرضتها طبيعة المجتمعات التي دخلت تحت حكم الدولة الإسلامية، خصوصًا في الشام وفارس، حيث اعتاد السكان على العيش في ظل إمبراطوريات مركزية ذات مؤسسات إدارية متماسكة. بهذا المعنى، لم يكن معاوية مجرد حاكم، بل كان مؤسسًا فعليًا لأول دولة إسلامية ذات بُعد إمبراطوري، استطاعت أن تستوعب التحديات السياسية والإدارية لعالم ما بعد الفتوحات.
من الجزيرة العربية إلى الإمبراطورية.. رؤية ر. ستيفن هامفريز
ر. ستيفن هامفريز في كتابه معاوية بن أبي سفيان: من الجزيرة العربية إلى الإمبراطورية، فيقدم قراءة تحليلية معمقة لدور معاوية في بناء الإمبراطورية الإسلامية الأولى. يناقش كيف استطاع معاوية، بدهائه السياسي، أن يحوّل الدولة الإسلامية من كيان ناشئ مهدد بالانقسامات الداخلية إلى قوة إقليمية قادرة على التوسع والهيمنة. يسلط هامفريز الضوء على قدرة معاوية على توظيف التقاليد القبلية لصالح بناء دولة ذات إدارة مركزية، كما أنه كان رائدًا في تطوير فكرة الحكم الوراثي، التي أصبحت لاحقًا سمةً مميزةً للخلافات الإسلامية المتعاقبة.
كما اشار الي أن معاوية بن أبي سفيان استفاد من الهياكل الإدارية والسياسية للإمبراطورية البيزنطية في تأسيس دولته. هذا التبني للأنظمة الإدارية الرومانية ساهم في بناء دولة إسلامية قوية ومتماسكة. يرى هودجسون أن فهم الدولة الإسلامية بدون النظر إلى تأثير معاوية واستفادته من التجارب السابقة، خاصة البيزنطية، يُعد تحديًا كبيرًا.
القي الضوء على سياسة معاوية في التعامل مع القبائل الشامية، مشيرًا إلى أن نهجه كان قائمًا على مبدأ المستشارية بدلًا من الإكراه والإخضاع، مما عزز من استقرار حكمه وقبول القبائل لسلطته.
كما فصل قي سياسة معاوية التنموية حيث قال "من خلال سياساته الحكيمة، نجح معاوية في تعزيز الاستقرار الاقتصادي للدولة الأموية، مما ساهم في ازدهار المناطق الواقعة تحت سيطرته.”
وحول بناء الدولة" استطاع معاوية وضع أسس الإدارة المركزية للدولة الأموية، مستفيدًا من الهياكل الإدارية للإمبراطوريات السابقة، مما ساعد في بناء دولة قوية ومتماسكة.”
أهمية التجربة الأموية في السياق التاريخي
إن قراءة معاوية والدولة الأموية ضمن سياقها التاريخي تكشف عن دروس مهمة حول تطور الحكم الإسلامي، وكيفية إدارة التحولات السياسية والاجتماعية في المراحل المفصلية. فالدولة الأموية لم تكن مجرد امتداد للخلافة الراشدة، بل كانت نقطة تحول نحو نموذج أكثر استقرارًا، وإن كان مختلفًا في طبيعته السياسية والإدارية. بعيدًا عن الجدل المذهبي والسياسي، تمثل هذه التجربة لحظة محورية في تطور الفكر السياسي الإسلامي، يمكن دراستها والاستفادة منها لفهم ديناميكيات السلطة في التاريخ الإسلامي.
تأثير الصراعات المذهبية على دراسة تجربة معاوية
للأسف، غالبًا ما يتم حصر دور معاوية في إطار الصراعات السنية-الشيعية، مما يحجب الرؤية عن دراسة تجربته السياسية والإدارية بشكل موضوعي. هذا التركيز الضيق يحرم الباحثين والمهتمين من الاستفادة من الدروس المستفادة من فترة حكمه وكيفية تأسيسه لدولة قوية في ظل تحديات داخلية وخارجية.
أهمية التجربة في ظل ازمة الدولة العربية بعد ثورات الربيع العربي
تكتسب تجربة معاوية بن أبي سفيان أهمية خاصة في ظل أزمة الدولة العربية بعد ثورات الربيع العربي، حيث تعاني العديد من الدول من ضعف السلطة المركزية، وتفكك المؤسسات، وعودة النزاعات القبلية والطائفية. بعد الفتنة الكبرى، ورث معاوية دولة منقسمة، لكنه نجح في توحيدها عبر سياسات مرنة، وتحالفات متوازنة، واستفادة من النظم الإدارية البيزنطية والفارسية، مما أسس لدولة مركزية قوية قادرة على الاستمرار. هذا يبرز أهمية تحقيق التوازن بين الشرعية السياسية والكفاءة الإدارية لضمان الاستقرار.
كما أن معاوية لم يقتصر على إدارة الداخل، بل عزز نفوذ الدولة خارجيًا، مدركًا أن الاستقرار الداخلي لا ينفصل عن دور الدولة إقليميًا ودوليًا. هذه التجربة تقدم درسًا بالغ الأهمية للدول العربية اليوم: الحاجة إلى مؤسسات قوية بدلًا من الحكم الفردي، وتجنب الإقصاء لصالح سياسات توافقية، مع بناء رؤية استراتيجية تتجاوز الصراعات الداخلية نحو دور أكثر تأثيرًا على المستوى الإقليمي والعالمي.
دعوة لإعادة تقييم تجربة معاوية
من المهم تجاوز المناكفات المذهبية والنظر إلى تجربة معاوية بن أبي سفيان كجزء من التاريخ الإسلامي الذي يحمل دروسًا وعبرًا. فهم كيفية استفادته من التجارب السابقة وتوظيفها في بناء دولته يمكن أن يقدم رؤى قيمة حول كيفية التعامل مع التحديات السياسية والإدارية في أي عصر.