|    English   |    [email protected]

هل حكمت الإمامة الهادوية اليمن ألف سنة؟

الخميس 6 مارس 2025 |منذ 3 أسابيع
فؤاد مسعد

فؤاد مسعد

لم تنتشر مقولة مثل مقولة أن الإمامة الزيدية (الهادوية) حكمت اليمن أكثر من ألف سنة، وانساق وراءها الكثير بوعي أو بدون وعي، وزاد بعضهم في الزعم أن الفترة الزمنية لحكم اليمن من قبل أئمة الهادوية تبلغ ألف ومائة سنة، انطلاقاً من أن مؤسس الدولة الهادوية يحيى بن الحسين الملقب بـ"الهادي" جاء اليمن أواخر القرن الثالث الهجري، ولم تسقط هذه الدولة إلا في أواخر القرن الرابع عشر الهجري، بقيام ثورة سبتمبر ضد دولة الإمامة الهادوية بنسختها الأخيرة المسماة (المملكة المتوكلية).

وهذه المقولة تنسفها حقائق التاريخ وتنفيها جملة وتفصيلاً، ويمكن بيان ذلك فيما يلي:

عرفت اليمن- كغيرها من الولايات التابعة للدولة العباسية في مراحل ضعفها- قيام دول مستقلة بسطت نفوذها على غالبية المناطق، خلال الفترة الزمنية الواقعة بين القرنين الثالث والرابع عشر الهجريين، (من القرن التاسع حتى القرن العشرين في التقويم الميلادي)، أي الفترة التي يدعي أنصار الإمامة أنهم حكموا اليمن خلالها.

ومن أهم الدول التي قامت خلال هذه الفترة: الزيادية واليعفرية والنجاحية والصليحية والحاتمية والزريعية والرسولية والطاهرية وغيرها، مع الإشارة إلى أنه في بعض الحالات كان ينشب الصراع بين دولتين أو أكثر، وهناك كثير من الشواهد على ذلك. فضلاً عن أن دولاً كبيرة عدة امتد نفوذها إلى اليمن وباتت جزءاً من تلك الدول، كما هو حال الدولة الأيوبية ودولة المماليك والدولة العثمانية (الأتراك).

وإذا شئنا التحديد بشكل أدق فإن أول دولة يمنية قامت في هذه الفترة هي الدولة الزيادية، حيث تأسست بداية القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) واستمرت نحو 200 سنة، ولم يصل يحيى بن الحسين اليمن ليؤسس دولته الهادوية -نسبة إلى لقبه الهادي- في مناطق صعدة وما حولها إلا بعد نحو 80 سنة من تأسيس دولة بني زياد، وبعد فترة وجيزة من قيام الدولة الزيادية ظهرت الدولة اليعفرية وحكمت صنعاء وأجزاء واسعة من الوسط والشمال فيما كان الزياديون يحكمون سيطرتهم على المناطق الواقعة غرب اليمن، وفي الفترة ذاتها ظهرت الدولة الإسماعيلية بقيادة علي بن الفضل، التي بدأت سيطرتها من المناطق الجنوبية واتجهت شمالاً نحو صنعاء، وعندما احتدم الصراع بين هذه الدولة من جهة، ودولتي بني يعفر وبني زياد من جهة ثانية قررت دولة الهادويين القابعة في أقصى الشمال، والكيان الضعيف في معادلة الصراع تلك أن تقف ضد دولة ابن الفضل رغم أنه يجمعهما رابط الانتماء للمذهب الشيعي.

ولم تضعف الدولتان الزيادية واليعفرية في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، حتى ظهرت دول يمنية جديدة، بدءاً بدولة بني نجاح، تليها الدولة الصليحية التي قوضت ما بقي للدولة الهادوية من بنيان بالإجهاز على زعيمها أبي الفتوح الديلمي، وامتد نفوذ الصليحييين ليشمل أغلب مناطق اليمن، وبعدها ظهرت دولة بني زريع ثم الدولة الحاتمية، واستمر الصراع بين هذه الدول إلى أن صارت اليمن ضمن الدولة الأيوبية التي استمر نفوذها في اليمن نحو 70 سنة، أعقبها قيام الدولة الرسولية التي بسطت نفوذها لأكثر من 220 سنة، ثم ظهرت الدولة الطاهرية التي خاضت صراعات عنيفة مع الإمام (شرف الدين) قبل أن يبدأ هذا الأخير حربه الضروس ضد ابنه الأكبر (المطهر). ولم تتوقف حرب بيت (شرف الدين) حتى صارت اليمن تابعة لدولة المماليك الذين سرعان ما ضعف نفوذهم وانهزمت جيوشهم أمام القوة الصاعدة للدولة العثمانية التي سيطرت على اليمن نحو مائة سنة، وبعد مغادرتهم تأسست دولة هادوية أخرى سميت بـ"الدولة القاسمية"، نسبة لمؤسسها القاسم بن محمد، ثم عاد الأتراك سيطروا على شمال اليمن قرابة 50 سنة. ولم يغادروا اليمن إلا بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) لصالح خصومها بقيادة بريطانيا التي كانت تحتل الأجزاء الجنوبية من اليمن منذ العام 1839.

تولى الحكم في شمال اليمن الإمام يحيى حميد الدين بعد مغادرة العثمانيين عام 1918، وأطلق على المناطق التي يسطر عليها (المملكة المتوكلية)، وقد لقي مصرعه على يد الثوار سنة 1948، وخَلَفه ابنه أحمد الذي لم يستقر حكمه بسبب تنامي المعارضة واتساع رقعة التمرد عليه حتى وفاته قبل أسبوع من قيام ثورة سبتمبر 1962.

ومن هنا فإن السؤال الذي يُطرح هنا: أين كانت دولة الإمامة الهادوية في كل هذه الفترة التي تزيد عن ألف سنة؟

كان للدولة التي أسسها الهادي نفوذ محدود في شمال الشمال، حتى أنه لم يستقر في صنعاء، وظلت دولته في حروب متواصلة مع القبائل اليمنية، وقد انحسرت الدولة في عهد أبنائه وأحفاده لصالح خصومهم الذين نازعوهم في مناطق سيطرتهم، وقامت دولة إمامية أخرى بزعامة قاسم العياني، عاشت هي الأخرى صراعات متواصلة حتى تلاشى نفوذها بتصاعد نفوذ الدول اليمنية التي سبق ذكرها، وسيطرت على أغلب مناطق اليمن، خاصة الدولة الصليحية والدولة الرسولية.

ومع أنه كان يظهر بين وقت وآخر شخص أو أكثر يدعون للإمامة لكن الاستجابة كانت مرهونة بواقع الدولة التي تحكم، ففي حالات الضعف كان يتوسع نفوذ أدعياء الإمامة كحركة معارضة وتمرد، سرعان ما تنحسر عندما تكون الدولة قوية وقادرة على كبح جماح الأدعياء الطامعين في السلطة.

ومن يطالع تاريخ اليمن يلاحظ أنه في كثير من الأوقات كانت توجد أكثر من دولة، وفي هذه الحالة تصبح اليمن عرضة للتقسيم بين القوى والدول المتنافسة، وفي المقابل كانت بعض الدول تتمكن من إحكام السيطرة والاستئثار بحكم البلاد كلها أو أغلب مناطقها.

كانت دولة الأئمة القائمة على نظرية الاصطفاء وحكر السلطة في البطنين تظهر عندما تضعف الدولة/ الدول القائمة، وفي حال اشتداد الصراع بين دولتين قويتين تنسحب دولة الأئمة إلى الجبال والمناطق المعزولة بعيداً عن سطوة الدولة، أما عندما تضعف الدولة أو الدول المتنافسة على النفوذ فإن الإمامة سرعان ما تسعى لتسد الفراغ، وهو ما ظهر في مراحل زمنية متقطعة بدأت مطلع القرن العاشر الميلادي، مع تأسيس دولة الهادي، وفي القرن السادس عشر تمكنت دولة الإمام شرف الدين من السيطرة عدة سنوات قبل أن ينشب الصراع الداخلي داخل البيت نفسه أولا بين الأب وابنه الأكبر، ثم بين هذا وإخوته، حتى سيطر الماليك على كل شيء، وكذلك تمكنت دولة الأئمة الهادوية بنسختها (القاسمية) من السيطرة على مناطق واسعة في القرن الثامن عشر، وكان لها نفوذ واسع إبان مرحلة الفراغ ما بين الوجود العثماني الأول في اليمن، وفترة الوجود الثاني، وهو ما يؤكد ما سبقت الإشارة إليه من أن الإمامة تنتعش حين تضعف الدولة أو ينحسر نفوذها لأي سببٍ كان.

وبالإضافة لما كان أدعياء الإمامة يعيشونه من صراع على السلطة مع القبائل والقوى والدول خارج سطوتهم، فقد كان يظهر من داخل البيوت الإمامية نفسها أشخاص يدّعون الإمامة ويعلنون الخروج على الإمام القائم، لذلك تجد تاريخ الحكم مليئاً بالشواهد على صراعات الإخوة الأئمة/ الأعداء، لأن كلاً يدعي أحقيته بالإمامة دون غيره، ما دام هو سليل البطنين ولديه القدرة على حشد الأنصار والمؤيدين تحت لوائه وفي سبيل تحقيق مآربه والوصول إلى غايته، وكل ذلك يغلفونه باسم الدين ويجعلون له ستاراً دينياً، والدين برئٌ من كل ما يدّعونه وما يدعون إليه.

ومن الملاحظ أيضاً أن أدعياء الإمامة الهادوية ما كنوا ليكفوا عن التمرد والخروج على الدولة حتى يجدوا الردع والقوة في مواجهتهم لإخماد تحركاتهم وكبح جماحهم، وفي التاريخ الكثير من الأدلة والشواهد على ذلك، منها ما حدث في عهد الملك المؤيد الرسولي، عندما تمرد عليه (أشراف المخلاف السليماني) وقتلوا الأمير، فجهز لهم الملك الرسولي جيشاً كبيراً استعاد السيطرة على المنطقة بعدما قتل عدداً كبيراً من المتمردين، الأمر الذي أدى لإنهاء التمرد وإذعان المنطقة لسلطة الدولة من جديد، غير أنه سرعان ما ظهر شخص يدعى الإمام المهدي محمد بن المطهر داعياً لنفسه بالإمامة، والتحق به عدد من الأشراف في كحلان حجة وذيبين، فما كان من الملك المؤيد إلا أن جهز جيشاً بقيادته، وخرج من صنعاء شمالاً نحو مناطق التمرد، وبعدما حقق الجيش الرسولي انتصاراته سارع المتمردون للخضوع والاستسلام.

وكان الشاعر سابق الدين يوسف العنسي يرافق الملك المؤيد في هذه الواقعة، وقد هنأه بقصيدة قال في مطلعها:

الملك ليس تنام فيه عيون       حتى تسيل من الدماء عيونُ

 ومنها:
فاطحنهم طحن الرحا بكتائبٍ
فالأرض إرثك كلها من تبعٍ

 غمدان قصركم القديم وقصركم
هي للطغاة جميعهم طاحونُ

فاعقل حديثي والحديث شجونُ
صرواح قبل وقصركم بينونُ