|    English   |    info@barran.press

فضيحة "سيغنال".. عندما يتسلل صحفي بالخطأ إلى غرفة القرار العسكري الأمريكي

الثلاثاء 25 مارس 2025 |منذ 6 أيام
توفيق الحميدي

توفيق الحميدي

في واقعة تُشبه مشاهد أفلام التجسس، تسلل الصحفي الأمريكي البارز، جيفري جولدبرج، رئيس تحرير مجلة The Atlantic، عن غير قصد إلى قلب غرفة القرار العسكري في البيت الأبيض. لم يحمل بطاقة أمنية، ولم يمر عبر جهاز كشف المعادن، بل جاءه طلب انضمام إلى دردشة على تطبيق Signal، ليجد نفسه وسط نقاش عالي الحساسية حول ضربة جوية وشيكة ضد جماعة الحوثي في اليمن.

هذا "الخطأ البشري" الذي أقر به مجلس الأمن القومي الأمريكي، لا يمكن اختزاله في زلة رقمية. بل يكشف عن ثغرات مقلقة في منظومة القرار، ويثير تساؤلات عميقة حول أمن المعلومات، وحدة القيادة، ومستقبل السياسة الأمريكية في لحظة عالمية شديدة التعقيد.

تطبيق مشفّر.. وعقول منفتحة أكثر من اللازم

صحيح أن Signal يعد من أكثر التطبيقات أمانًا من حيث التشفير، لكن الاعتماد عليه في إدارة نقاش عسكري بالغ الحساسية يطرح علامات استفهام. فهل باتت المؤسسات الأمريكية تعتمد على أدوات غير رسمية لمداولات بهذا الحجم؟

وهل تراجعت الثقة بالبنية التحتية الأمنية الرسمية إلى حد اختيار تطبيق مدني لإدارة مشاورات حربية؟

الواقعة تطرح ما هو أبعد من سؤال تقني؛ إنها تكشف ثقافة مؤسسية رخوة في التعامل مع معلومات استراتيجية، تستهين بالبروتوكولات التقليدية، وتغامر بثقة الشركاء وحياة الجنود على السواء.

البيت الأبيض من الداخل.. وحدة القرار أم تباين الحسابات؟

ما تسرب من فحوى المحادثة يكشف خلافًا داخل الإدارة الأمريكية. نائب الرئيس، جي دي فانس، أبدى تحفظه على الضربة، محذرًا من انعكاساتها على العلاقات مع أوروبا وأسعار النفط. لكنه، في نهاية المطاف، منح تأييده للعملية.

هذا التردد – المسجّل والمسرّب – لا يبدو تفصيلًا. بل يعكس تباينًا في الرؤية داخل الإدارة الأمريكية حول كيفية التعامل مع الأزمات الخارجية، وخاصة في مناطق معقدة مثل الشرق الأوسط. إنه تباين يُربك الحلفاء، ويُغري الخصوم بالتشكيك في تماسك القرار الأمريكي.

تعيينات سياسية خارج التخصص.. العبث بالمواقع الحساسة

لا يمكن فصل ما جرى عن سياق أوسع يتمثل في تعيين شخصيات في مواقع أمنية حساسة دون خلفيات مهنية راسخة في المجال الأمني أو العسكري. فعدد من الأسماء التي ظهرت في محادثة Signal، بمن فيهم نائب الرئيس أو مستشار الأمن القومي، لا يحملون بالضرورة تأهيلاً أمنيًا تقليديًا، بل جاءوا من خلفيات إعلامية أو سياسية أو حتى حزبية، تم اختيارهم وفقًا للاعتبارات الولائية لا الكفاءة.

هذه التعيينات تعكس نمطًا متصاعدًا في الإدارة الأمريكية المعاصرة، حيث يتم تسييس المناصب السيادية وتحويلها إلى أدوات للصراع الداخلي أو لتمرير سياسات محددة. والنتيجة هي هشاشة في إدارة الملفات الكبرى، وسهولة في ارتكاب أخطاء كارثية كما حدث في هذه الواقعة.
فالقرارات العسكرية ليست مجرد "خيارات استراتيجية"، بل منظومات معقدة تتطلب فهمًا عميقًا بالتكتيك والسياسة والتكنولوجيا، وهي مسؤوليات لا يمكن التعامل معها بمنطق العلاقات العامة أو الولاء الحزبي.

ضربة للحلفاء والخصوم معًا

الواقعة أحرجت المؤسسة الأمنية أمام الداخل الأمريكي، لكنها كذلك أربكت الحلفاء في أوروبا الذين كانوا ضمن النقاش، باعتبارهم مرشحين للمساهمة في حماية خطوط الملاحة في البحر الأحمر.

أما الخصوم – كإيران وروسيا – فقد وجدوا في هذه الثغرة فرصة للتشكيك في صلابة القيادة الأمريكية، بل وربما قرأوها كعلامة على خلل مؤسسي في أكثر اللحظات حساسة.

الصحافة.. الكاشفة والمُربكة في آن

أن يكون الصحفي هو من يُطلع الرأي العام على خطة عسكرية قبل ساعات من تنفيذها، ليس مجرد سبق صحفي، بل خلل أمني فادح. لكن المفارقة أن جولدبرج لم يتنصّت، ولم يخترق. كل ما فعله أنه أجاب على دعوة وصلت هاتفه!

هذه الحادثة تعيد فتح ملف العلاقة المعقدة بين الصحافة والسلطة في واشنطن. إذ لا يمكن للبيت الأبيض أن يطالب الصحفي بالصمت، ولا يمكن للصحافة أن تتجاهل ما وصلها بالخطأ. وهنا تتجلى أزمة الحدود بين الأمن القومي وحرية التعبير.

ما بعد الحادثة.. إجراءات مشددة أم أزمة ثقة؟

من المؤكد أن دوائر القرار الأمريكية بصدد مراجعة داخلية صارمة. لكن هناك ما هو أعمق من ذلك: فقد تزعزعت الثقة في قدرة الإدارة على ضبط أدواتها، حتى الرقمية منها.

من المتوقع:
- إجراءات تقنية مشددة لاستخدام التطبيقات المشفّرة.
- تحقيقات داخلية لمحاسبة المسؤولين عن الخطأ.
- وربما إعادة تقييم لطريقة إدارة النقاشات الحساسة في عصر الهاتف الذكي.

هل كان التسريب مقصودًا؟ الصحافة كأداة استراتيجية

رغم أن الرواية الرسمية وصفت الحادثة بـ"الخطأ غير المقصود"، إلا أن عدة مؤشرات تفتح الباب أمام فرضية أن يكون ما حدث تسريبًا مقصودًا ومدروسًا.
فالتوقيت، والشخصية الصحفية المستهدفة، وطبيعة المعلومات المسربة، كلها تدفع للتساؤل: هل أرادت الإدارة الأمريكية توصيل رسالة محسوبة إلى الداخل والخارج؟ وهل كان جولدبرج مجرد وسيط إعلامي في عملية تسريب ناعم؟

في الواقع، العلاقة بين الصحافة والسياسة في الولايات المتحدة تتجاوز مجرد نقل الأخبار، إلى كونها أداة استراتيجية في إدارة الصراع وتوجيه الرسائل.

تاريخيًا، استخدمت الإدارة الأمريكية وسائل الإعلام لنشر تسريبات "موجهة" تخدم أهدافًا سياسية أو عسكرية، كما حدث في:

- تسريبات حرب فيتنام (1971)، التي كشفت أكاذيب الحكومة وأدت إلى انقلاب في الرأي العام، رغم أن نشرها عبر نيويورك تايمز اعتبره البعض جزءًا من صراع داخلي بين أجنحة السلطة.
- تسريبات أسلحة الدمار الشامل في العراق (2002–2003)، التي مررت عبر صحف كبرى لتبرير غزو العراق، ثم تبيّن لاحقًا أنها اعتمدت على مصادر رسمية مضللة.
- وحتى في عملية اغتيال أسامة بن لادن (2011)، سُرّبت بعض تفاصيل العملية إلى صحفيين مختارين قبيل الإعلان الرسمي، لتهيئة الرأي العام والسيطرة على السرد الإعلامي.

هذه الأمثلة تشير إلى أن التسريبات في السياق الأمريكي ليست دائمًا أخطاء عفوية، بل أدوات محسوبة ضمن صناعة القرار. وإذا ثبت أن حادثة "سيغنال" تندرج ضمن هذا النمط، فإننا أمام مشهد يجمع بين "التسريب السياسي"، و"التهيئة الإعلامية"، و" والضغط النفسي"  "الإخراج الأمني" المتعمد.

خاتمة: سقوط الرمز الرقمي في غرفة القرار

في عالم تتسارع فيه الأحداث وتتصاعد فيه الأزمات، لا يكفي أن تمتلك الدولة الطائرات المسيّرة والأساطيل البحرية. بل لا بد أن تمتلك ثقافة مؤسسية تحترم البروتوكول، وتعقلن استخدام الأدوات التكنولوجية.
فالسياسة، كما أظهرت حادثة "سيغنال"، يمكن أن تنهار ليس فقط تحت ضربات العدو، بل عبر لمسة خاطئة – أو ربما مقصودة – على شاشة هاتف