|    English   |    [email protected]

الهلال والحساب.. جدل الرمز والعقل في زمن الإنسان ذي البعد الواحد

الثلاثاء 1 أبريل 2025 |منذ يوم
توفيق الحميدي

توفيق الحميدي

في زمنٍ تُدير فيه التكنولوجيا دورة الحياة بأزرارٍ باردة، وتُستبدل فيه الرموز العميقة بالإشارات اللحظية، يطلّ علينا الهلال كل عام ليذكّرنا بأن للزمن وجهًا آخر، وجهًا يربط الإنسان بالسماء لا بالخوارزميات.

رغم إيماني العميق بالحساب ودقته العلمية، لا أستطيع أن أتجاهل ذلك البعد الرمزي الحضاري الذي يحمله الهلال. فمنذ عقود طويلة، لم تنتهِ بعد معركة الهلال والحساب. ظلت هذه المعركة تُستأنف في كل موسم رمضاني، في جدالات فقهية ومناظرات عقلية بين من يُقدّس الرؤية البصرية للهلال، ومن يُعوّل على دقة الحساب الفلكي. وقد تحوّلت هذه المناقشات الموسمية إلى طقس جدلي عقيم، يُستدعى مع كل رمضان وفطر، دون أن نُقارب جوهر المسألة أو نطرح السؤال الحقيقي: ما الذي فقدناه في خضم هذا النزاع؟

ومع تعقّد هذا الخلاف، ارتبط كل من الهلال والحساب بثنائية صدامية: الهلال يُنظر إليه كرمز للتقليد، والحساب بوصفه تمثيلًا للعلم والحداثة. أصبحت المسألة جزءًا من معركة أكبر بين "التراث والحداثة"، بين "الزمن القديم" و"العصر الجديد". وفي هذا الاصطفاف، أُقصي الهلال من رمزيته الحضارية، وصار من يدافع عنه يُتهم بالرجعية، بينما لم تكن المسألة يومًا صراعًا بين العلم والجهل، بل بين معنيين للزمن: أحدهما تقني والآخر روحي.

إن اختلاف منازل القمر وتعدد المطالع لا يُعد خللًا بل تجليًا لسنة إلهية وكونية، تربط الإنسان بجغرافياه وبموضعه من هذا الكون. هكذا كان الإنسان قبل هيمنة التكنولوجيا: يضبط إيقاع حياته على حركة النجوم، والمد والجزر، ودورة الزراعة. ورغم هذا التعدد، لم يُفسد ذلك وحدة الأمة، ولا تماسكها، ولا اشتراكها في الهدف والمصير. بل إن هذا التعدد أضاف لوجودها سعةً ومرونةً وجمالًا، وساهم في ترسيخ مشترك روحي يتجاوز الحدود والمواقع.

الانشغال المفرط بتفاصيل الجدال حجب عنّا المعنى الرمزي العميق للهلال بوصفه حاملًا لهوية الأمة الإسلامية. لقد حُرم المسلمون – نتيجة لهذا الصراع – من فرصة التعمق في البعد الحضاري والروحي للرموز الدينية، فصاروا أقرب إلى استنساخ الآخر، الذي هو نفسه يعاني من اغترابه الحديث، بعد أن قطع علاقته بجذوره الروحية، واستبدلها برموز مادية متغيرة.

انحيازي للهلال ليس رفضًا للحساب، بل دفاعًا عن رمزٍ حضاري يختزن ذاكرة أمة. إنه ليس قوسًا بصريًا فحسب، بل علامة على تاريخ خاص، ومخيال جماعي، وهوية رمزية. كما أن الصليب للمسيحيين والنجمة لليهود، فالهلال للمسلمين ليس زينة، بل دلالة على الاستقلال الرمزي الذي مارسته الأمة في لحظات تأسيسها: من الهجرة كتقويم، إلى القبلة، إلى الأذان.

في الغرب، حيث الرموز تُحيط بكل شيء – من أعياد الميلاد إلى الاحتفالات القومية – يصبح الحفاظ على رمز كالهلال ضرورة لا ترفًا. الرمز ليس شكلاً؛ بل حاملاً للمعنى، وجسرًا للتواصل، وأداة لتعميق الانتماء.

وفي ظل تزاحم الرموز الدينية والثقافية في الفضاء العام الغربي، من الصليب الذي يعلو الكنائس، إلى نجمة داوود، والاحتفالات القومية المشبعة بالدلالات، يبرز الهلال الإسلامي لا كمجرد شعار بصري، بل كرمز ديني عميق يتجاوز الزينة إلى جوهر الهوية.

وفي هذا السياق، فإن انتشار رمز الهلال في شهر رمضان، وتزيين الشوارع والمنازل به، خاصة في المجتمعات الغربية، لم يعد مجرد ترف جمالي أو محاكاة لطقوس موسمية، بل هو تعبير عن حاجة جمعية وثقافية عميقة. إنها محاولة لإعادة تشكيل الفضاء الخاص للمسلم، لا بوصفه فضاءً مغلقًا، بل كمجال حيوي يربط الأسرة بجذورها الرمزية والدينية.

إن انحيازنا للهلال كرمز، ليس مجرد تمسّكٍ بوسيلة تقليدية، بل هو موقفٌ وجودي وثقافي في وجه المادية المجردة التي تُفرغ العالم من رموزه وتُقصي الإنسان عن روحه. إنه انحياز إلى المعنى، إلى الإنسان في جوهره، لا بوصفه آلةً أو مستهلكًا، بل ككائن يحمل في داخله التوق إلى الغيب والدهشة والقداسة. نحن، في هذا الاختيار، لا نقف وحدنا، بل نصطفّ إلى جانب مئات المفكرين والفلاسفة والمصلحين، من خلفيات دينية وثقافية ومذهبية متنوعة، أطلقوا صيحات تحذير من الانحدار المخيف الذي تسلكه الحضارة المادية المعاصرة، ذات اللون الواحد والبعد الواحد، التي اختزلت الإنسان في المعادلات، وسلبته أبعاده الروحية، باسم "العلم" و"التقدّم".

اليوم، نعيش في ظل تحولات عميقة تُنتج ما سماه الفلاسفة بـ"الإنسان ذي البعد الواحد"، وهو الإنسان الذي يُختزل في الاستهلاك، ويفقد قدرته على التأمل، والنقد، والإبداع.

في هذا الفراغ الوجودي، يمكن للدين أن يلعب دورًا تحرريًا عميقًا. ليس بوصفه سلطة أو منظومة مغلقة، بل كأفقٍ روحي ومعنوي يعيد الإنسان إلى ذاته، ويُصلح ما كُسر فيه.

الدين لا يكتفي بتوفير إجابات روحية، بل يُشجّع على التفكير النقدي، ويمنح المسلم إطارًا أخلاقيًا لمعارضة الظلم، والمشاركة في النضال من أجل العدالة والمساواة.

الهلال، إذًا، ليس ضد الحساب، بل هو شاهد على أن الزمن ليس مجرد عدٍّ للأيام، بل بناءٌ للوعي. وفي لحظة يُختزل فيها العالم إلى معلومات، ويُقاس الإنسان بعدد نقراته، يصبح الرمز فعل مقاومة، والهلال عنوانًا لمعركة المعنى.
فلنستعده، لا كأداة فلكية، بل كبوصلة للروح، وكحكاية لأمة ما زالت تبحث عن ذاتها في مرآة الزمن.