|    English   |    [email protected]

من طهران إلى صعدة.. هكذا تتحدى إيران العالم وتمد الحوثيين بالسلاح

الأربعاء 9 أبريل 2025 |منذ أسبوع
د. محمد العرب

د. محمد العرب

بينما تُسلّط الأضواء على البحر الأحمر، وتتعالى التصريحات عن الرقابة الدولية ومراقبة الشحنات المشبوهة، يدور في الخفاء صراع من نوع آخر…!

إنه صراع لا يُرصد بالأقمار الصناعية، ولا يُوثّق بكاميرات المراقبة، بل يُدار بأدوات أخفت من الدخان وأخطر من الرصاص. تهريب السلاح إلى الحوثيين لم يعد مجرد قوارب سريعة وسفن مشبوهة، بل تحوّل إلى منظومة ذكية تستغل كل فجوة في النظام الدولي وكل ثغرة في الحصار. ولعلّ ما يحدث اليوم يكشف عن شبكة تهريب متطورة لا تعتمد على طريق واحد، بل على طرق متعددة ومتزامنة، يديرها ضباط في الحرس الثوري، وتموّلها مكاتب غير مرئية، وتُنفَّذ بأيدٍ لا تُثير الشك.

في قلب طهران، لا تحتاج لجهد كبير كي تسمع اسم (سعيد الجمل) في الغرف الأمنية الحوثية ، الجمل الملقب بـ (المموّل الظلّي) ليس فقط مموّلاً للحوثيين، بل مهندس طرق الإمداد الجديدة. فمنذ انتقاله إلى إيران عام 2004، أقام الرجل شبكة مالية وتجارية معقّدة ترتكز على شركات وهمية، وحسابات بنكية في مناطق رمادية، وصفقات نفط تُباع بأسعار غير واقعية لمشترين في السوق السوداء ومؤخرًا عبر العملات الرقمية ، لكن الأهم من المال هو المسارات.

أول هذه المسارات يتم عبر حقائب لا تُفتح. في نظر القانون الدولي، الحقيبة الدبلوماسية محصّنة من التفتيش، وفي نظر الحرس الثوري، هي مجرد حاوية ذكية لمكوّنات عسكرية دقيقة. تُرسل من السفارات الإيرانية في إفريقيا إلى صنعاء أو صعدة عبر وسطاء، وتحتوي على شرائح إلكترونية، مستشعرات حرارية، مكونات اتصال عسكرية، أو حتى برامج توجيه صواريخ مسيّرة. ولأن عدد هذه الحقائب محدود، فهي تُستخدم للأغراض (الذهبية) : الأجزاء التي لا يمكن تصنيعها محلياً ولا تهريبها علناً.

ثم هناك المسار الأكثر غموضاً: المنظمات. في مناطق مثل الحديدة وصعدة، تدخل شحنات تحت شعار (مساعدات طبية أو تعليمية) تُشرف عليها منظمات إنسانية، بعضها حقيقي، وبعضها مجرد واجهة. داخل بعض الحاويات الطبية، يتم تمرير طائرات مسيّرة مفككة أو بطاريات ميدان أو حتى أنظمة تشويش صغيرة الحجم. في إحدى العمليات التي لم تُعلن رسمياً ، كُشف عن شحنة أجهزة غسيل كلى تحتوي بداخلها على مكونات لتجميع طائرتين مسيّرتين من طراز (صماد-4).

وفي الجنوب، تدور اللعبة عبر الهلال الإفريقي ، سواحل إريتريا والصومال ليست مجرد أراضٍ فقيرة أو مناطق صيد تقليدية، بل محطات استراحة لشحنات السلاح. تصل السفن الإيرانية إلى هناك تحت غطاء مساعدات أو تجارة مشروعة، ثم تُفرغ حمولتها في قوارب صيد محلية، يقودها يمنيون موالون للحوثي، ينقلونها إلى سواحل اللحية وكمران. ومن هناك تبدأ سلسلة توزيع برية معقدة تمر عبر مناطق جبلية لا تخضع لأي سلطة إلا السلطة الحوثية.

المسار التجاري (الناعم) لا يقل دهاء ، في أحد التقارير التي أُعدّت لمجلس الأمن، تم ضبط معدات صناعية ضخمة مُستوردة باسم شركات يمنية تعمل في صنعاء. هذه المعدات تضم في داخلها أنابيب توجيه، أنظمة ضغط، ولوحات إلكترونية تستخدم في مصانع الأسلحة. طريقة التغليف تجعل من الصعب على المفتشين غير المتخصصين اكتشاف ما بداخلها. وهناك تسجيل مسرّب لضابط جمارك سابق يقول: ما يصل إلى ميناء الحديدة ليس ما يبدو، فكل قطعة تحمل احتمالا مزدوجاً ، مدنياً وعسكرياً.

لكن المفاجأة الكبرى كانت في اكتشاف (المتاجر الرقمية المموّهة) فالحوثيون – أو لنقل شبكة تمويلهم – باتوا يستخدمون مواقع تسوّق آسيوية شهيرة لشراء أجزاء حساسة تُشحن إلى اليمن على دفعات صغيرة لا تُثير الشك. على سبيل المثال، تم تتبع طلبات متكررة لشرائح توجيه وتصميم طائرات بدون طيار من موقع مقرّه في سنغافورة، تم إرسالها إلى صنعاء تحت بند (ألعاب إلكترونية للأطفال)…!

أما الأكثر رعباً فهو ما يُعرف داخلياً بـ (الحمولة البشرية) تُستغل حركة المهاجرين غير الشرعيين، خصوصاً من القرن الإفريقي، لتهريب أجزاء صغيرة من الأسلحة أو الشيفرات أو الشرائح الذكية. بعض المهاجرين – مقابل المال – يحملون هذه القطع في بطانات ثيابهم أو داخل أمتعتهم. إحدى هذه العمليات تم اكتشافها من قبل أجهزة الأمن في منطقة حدودية، حيث وُجدت شريحة طائرة مسيّرة داخل علبة دواء مع مهاجر إثيوبي لا يعرف حتى ما يحمل.

الذكاء الاصطناعي أيضاً دخل على الخط. هناك معلومات مؤكدة أن الحوثيين حصلوا على أنظمة ذكاء صناعي مغلقة، لا تحتاج اتصالاً بالإنترنت، تُستخدم لتحسين تصنيع الطائرات المسيّرة محلياً بناءً على البيانات المخزّنة فيها. هذه الأنظمة تُهرّب على شكل حواسيب صناعية أو أنظمة تشغيل روبوتية.

لكن من بين أكثر الأساليب دهاءً، ما يُعرف داخلياً في أوساط الاستخبارات البحرية بـ (الإسقاط العائم) حيث تقوم سفن شحن إيرانية أو مرتبطة بطهران بإسقاط حاويات صغيرة محكمة الإغلاق في المياه الدولية، غالباً شمال شرق جزيرة سقطرى أو في محيط المياه الواقعة بين سواحل إريتريا واليمن، في نقاط يتم اختيارها بدقة خارج نطاق التتبع الراداري المباشر. تُترك هذه الحاويات طافية على سطح البحر، مزوّدة بأجهزة تحديد مواقع غير متصلة بالأقمار الصناعية لتجنّب الرصد، لكنها تُفَعّل فقط عندما تقترب قوارب الاستلام الحوثية.

بمجرد الإسقاط، تُرسل الإحداثيات إلى وحدة بحرية حوثية عبر وسيط مشفّر يعمل من صنعاء أو صعدة، وغالباً ما تستخدم فيها تطبيقات مراسلة مشفّرة أو تعليمات صوتية مركبة عبر إذاعات خاصة. تنطلق قوارب سريعة مموهة كقوارب صيد ليلية من سواحل اللحية أو المراوعة، تصل إلى الموقع، وتنتشل الحاوية قبل أن ترصدها الأقمار الصناعية. وفي بعض الحالات، يتم تدمير جهاز التحديد فوراً بعد الاستلام، ويُغرق الحاوية الفارغة كليًا لمنع تعقّبها أو تحليل محتواها.

هذه الطريقة، التي يصعب تتبعها أو إثباتها قانونياً ، تُستخدم في تمرير شحنات نوعية مثل أنظمة الملاحة، دوائر كهربائية معقدة، أو حتى أسلحة خفيفة جاهزة للاستعمال، دون الحاجة لأي وسيلة شحن رسمية أو المرور عبر الموانئ. وهي دليل على أن طهران لم تكتفِ بتهريب السلاح، بل طوّرت فنون التخفي البحري إلى مستوى عمليات الاستخبارات الكبرى.

كل هذا يحدث والعالم يراقب البحر، فيما تمر الشحنات من اليابسة والجو والدبلوماسية والبيانات. إيران لم تُسلّح الحوثيين فقط بالسلاح، بل بالتكتيك، بالتخفي، وبفنّ اختراق المنظومة الدولية. الأمر لم يعد شحنة واحدة أو سفينة عابرة، بل شبكة تمتد من بندر عباس إلى قلب صعدة، عبر 6 خطوط ومسارات لا تلتقي إلا في هدف واحد: إدامة الصراع، وتثبيت الحوثيين كذراع متقدم لطهران في خاصرة الجزيرة العربية.
في عالم تتسارع فيه الرقابة وتتحول الحدود إلى شِباك مراقبة، تبدو هذه المسارات غير قابلة للإيقاف بسهولة، إلا إذا اجتمعت الإرادة الإقليمية والدولية في تفكيك الشبكة، لا فقط رصد شحناتها.