قراءة تحليلية في ديناميكية التفاهة

عبد ربه السقاف الطهيفي
من يشاهد حال اليمن اليوم والناس تموت على الأرصفة، وأكثر منهم يموت في الخفاء، وفي الوقت نفسه يرى الجماهير والنخب في التواصل الاجتماعي منشغلة بالتفاهة والترندات السخيفة والقضايا الهابطة، من يرى ذلك يستغرب من رواج التفاهة فيما الشعب يحتضر واليمن تنازع سكرات الموت حرفيًا، ويقفز دائمًا للبال سؤال مهم جدًا يجب طرحه وتحليله وهو:
هل النخبة التافهة هي من تصنع جمهورًا تافهًا، أم أن الجمهور التافه هو من يفرز نخبًا تافهة بالضرورة؟
أولًا، التفاهة التي نقصدها هنا ليست ذات التفاهة التي يقصدها الفيلسوف الكندي (آلان دونو) في كتابه "نظام التفاهة". فالتفاهة التي ناقشها دونو، رغم قسوتها، تبدو — للأسف — حلمًا بعيدًا مقارنةً بالتفاهة التي نعيشها اليوم. من يعش تفاهة الوضع الحالي، قد يرى في تفاهة دونو درجة من الرقي.
الحقيقة أن السؤال أصعب مما يظنه الكثيرون.
فمن ناحية، يرى البعض أن من البديهي أن النخب التافهة، بما تملكه من إمكانيات وإعلام وجميع أدوات التحكم بالناس، هي – إن كانت تافهة – ستوجه الجمهور نحو التفاهة بطبيعة الحال. إذن، الحل سهل: فقط تتغيّر النخبة التافهة إلى نخبة غير تافهة.
لكن يرى فريق آخر أن الجمهور التافه هو من يصنع النخب التافهة. ليس فقط عن طريق الانتخابات أو أي من المسارات الكبرى إنما أبسط مثال يمكن ضربه هو ما نشاهده في وسائل التواصل الاجتماعي، إذ ترى الجماهير تحتشد وتؤيد وتتفاعل مع الشخصيات التافهة والمحتويات التافهة. وهذا بطبيعة الحال يدفع الآخرين إلى إنتاج محتويات تافهة لجذب الجمهور. وبالتالي، فالجمهور – حسب هذا الرأي – هو من أفرز النخب التافهة. والحل حينئذ بسيط: يتغير مستوى الجمهور وسوف يُنتج نخبة تليق به.
ولكن إذا أردنا تفكيك المسألة بطريقة أعمق، وبشكل عملي في هذه المرحلة من تفكيك هذه القضية يجب أن ندرك أن المسألة جدلية ديالكتيكية بطبيعة الحال: الجمهور التافه سوف يُنتج نخبًا تافهة، والنخب التافهة سوف تُعيد تشكيل بيئة تُفرز جمهورًا تافهًا.
وعليه، يجب أن نصيغ السؤال بطريقة أخرى ونقول:
كيف يمكن فك هذه الحلقة إذن؟
سنعود ونرى القضية من الزاويتين:
الزاوية الأولى: أن يعي الجمهور السلطة التي بيده، وهي تشجيع المحتويات التافهة، فيحوّلها إلى تشجيع المحتويات والنخب غير التافهة.
الزاوية الثانية: أن النخب تستطيع أيضًا أن توجه الجماهير بما تملكه من أدوات وإمكانيات، وتغير وعي الجمهور العام وتخرجه من دائرة التفاهة.
والحقيقة أن هذا الشكل من السؤال أسهل في الإجابة، إذ إن تغيير النخبة أسهل من تغيير الجمهور. فالجمهور هو في الحقيقة الهدف النهائي. وإذا أصبح لدينا جمهور واعيًا، فالجولة تكون قد حُسمت، والغاية قد تحققت، وستتشكل تلقائيًا نخب غير تافهة. إذن، فك الحلقة يمكن أن يبدأ من تغيير النخبة لا الجمهور.
لكن إن أردنا إعادة صياغة السؤال مرة ثالثة:
إذن، ما هو العمل؟ أو ما هي الخطوة الأولى التي يجب اتخاذها؟ وعلى من تقع المسؤولية؟
الحقيقة أن التاريخ يعطينا نماذج كثيرة تحولت فيها شعوب وجماهير عريضة من وضع هابط إلى رُقي وازدهار. وقد حصل ذلك بطرق متعددة، منها أن يهب الله نخبًا مميزة تقلب الموازين في لحظة معينة، وتنجح في انتشال الجماهير من آفة التفاهة.
لكن هذه الشخصيات التي غيّرت مجرى تاريخ أمتها وجماهيرها، شخصيات محدودة ونادرة الوجود، ولا يمكن التعويل عليها أو انتظار أن يبعث الله أحدًا من هذا النوع ليغير الموازين.
وأهم خطوة ممكن اتخاذها لكسر هذه الحلقة تقع على عاتق المثقفين.
فهم مَن يستطيعون كسر دورة التفاهة، بين النخب والجمهور.
لكن هذه المهمة تتطلب كثيرًا من الشجاعة والإقدام، لأن من يخوض هذه المعركة يشبه من يسير عكس التيار، ويصطدم بكثير من العوائق، ويتعرض للتهديد والترويع، بل والتكفير والتخوين، وكل تلك التهم الجاهزة.
ومع ذلك، ليس هناك عذر ولا مبرر للمثقفين في أن يتكاسلوا عن مهمتهم، لأن تحليل هذه القضية بشكل معمق لا يفضي إلا إلى تحميل المسؤولية عليهم.
فإذا نجحوا في كسر هذه الحلقة، وخلقوا – ولو جزئيًا – شخصيات نخبوية خارج دائرة التفاهة، وفي الوقت نفسه رفعوا مستوى وعي الجماهير ولو بشكل نسبي، وتزامن هذا التحسن في وعي الجمهور مع تحسن في نوعية النخبة، فتلك هي الخطوة الأولى.
وهكذا، تبدأ أول دورة في عجلة القطار، الذي إن تحرك، ستصبح كل دورة فيه أسهل من سابقتها، حتى يخرج المجتمع من دائرة التفاهة.
إن شاء الله