|    English   |    [email protected]

عندما انتهى الامر الى المتنبي جلس الشعر ووقف الملوك!

السبت 26 أكتوبر 2024 |منذ 3 أسابيع
علي حسين الضبيبي

علي حسين الضبيبي

فزع سيف الدولة الحمداني والمتنبي ومعهما ثلة من الفرسان مسرعان الى التخوم البيزنطية لإنقاذ سرية تعرضت للخطر وهي تحوم على الحدود.

وعلى العكس: وجدوا السرية قد ظفرت فشعر سيف الدولة بالانتشاء. وعندما أراه أحد العرب سيفه نظر الى الدم عليه والى فلول قد أصابته في ذلك اليوم المشهود فأنشد سيف الدولة متمثلاً بقول النابغة الذبياني:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلولٌ من قِراع الكتائبِ

تخبّرن من ازمان يوم حليمةٍ
إلى اليوم قد جُربن كل التجاربِ

فقال الطيب المتنبي في الحال:

رأيتك توسع الشعراء نيلاً
حديثهم الموّلّد والقديما

فتعطي من بقى مالاً جسيماً
وتعطي من مضى شرفاً عظيما

سمعتك منشداً بيتيَ زيادٍ
نشيداً مثل مُنشده كريما

[ وزياد هو اسم النابغة ]

لازم ابو الطيب المتنبي سيف الدولة اكثر من تسع سنوات لا يفارقه وذكره بأكثر من ثمانين قصيدة معظمها مدحاً وهي حصيلة ضخمة وكنز لم يحز عليه ملك قبله ولا بعده.

فرغت اليوم من قراءة ديوان المتنبي. وشعرت بالنشوة البالغة والسعادة رغم بؤس الحال. 

ربما لم يتكامل شاعر وملك كما تكامل المتنبي وسيف الدولة.

كان سيف الدولة الحمداني ملك وكان المتنبي امامه رأس برأس: ملك بالموازة. 

وعلى خلاف الشعراء الذين ينشدون الشعر كعادته وقوفاً في حضرة الملوك كان المتنبي يلقي شعره جالساً.

وقف الشاعر كعب بن جعيل التغلبي في ديوان معاوية
وقف الأخطل امام يزيد
 ومن بعده امام عبدالملك بن مروان
وجرير امام الحجاج
وعدي بن الرقاع أمام الوليد
والفرزدق امام سليمان ثم يزيد بن عبدالملك
وامتدح بشار ابي جعفر المنصور والمهدي
ووقف ابو نواس امام المهدي والرشيد والامين والمأمون بالتتابع
ومدح ابي تمام المعتصم
ووقف البحتري وعلي بن الجهم في حضرة المتوكل
ومن قبلهم وقف الشعراء العظام امام ملوك المناذرة
لكن: 
لما انتهى الأمر الى المتنبي جلس الشعر ووقف الملوك! 

المتنبي لا يقم. 
ولا يرد على اسئلة الشعراء واستفساراتهم إلا اذا صاح به سيف الدولة : ما بالك يا ابا الطيب رد فيرد ويفحمهم.

هذه الشخصية بكبريائها وإبائها جلبت عليه نقمة شعراء عصره ولا سيما شعراء الديوان الأميري في حلب.

لقد احتاروا ولم يجدوا طريقاً لترويض هذه العنجهية حتى ان سيف الدولة نفسه وقف عاجزاً : اذ يراه متغطرساً وكان يفخر المتنبي بنفسه في القصيدة نفسها التي يمدح فيها الملك او الأمير أحيانا بما يفوق الممدوح نفسه. 

ذات مرة قذفه سيف الدولة بعلبة الدواء عندما عجز حشد من الشعراء إفحام المتنبي وهم يحاولون إعطاب إحدى قصائده بيتاً بيتاً بزعامة الأمير والشاعر ابي فراس ( ابن عم سيف الدولة وصهره).

وكان المتنبي قد حضر لينشد ميميته الشهيرة وسط حضور فخم وفي نفسه غُصة على ابن خالوية النحوي وفي نفس المتنبي بعض العتب على سيف الدولة الذي تتمثل إحدى عيوب شخصيته الفذة بأنه كان مِسماعاً يصدِّق ما ينقل اليه من كلام.

كان المتنبي قد لزم بيته أياماً لهذا السبب.  فأرسل سيف الدولة لإحضاره فلما وصل كان لحضوره جلبة كأي رجل فخم يرفض ان يقال له شاعر على اعتبار ان هذه الصفة تساويه بغيره من الشعراء. 

دخل المتنبي واخذ مقعده وبدأ ينشد ولم يلتفت اليه سيف الدولة او يعريه اهتماماً:

واحر قلباه ممن قلبه شبمُ
      ومن بجسمي وحالي عنده سقمُ

مالي أُكتِّم حباً قد برى جسدي
      وتدّعي حب سيف الدولة الأمم
.......
قد زرته وسيوف الهند مغمدةٌ
        وقد نظرتُ إليه والسيوف دمُ

فكان احسن خلق الله كلهم
    وكان أحسن مافي الاحسن الشِيمُ

ظل سيف الدولة عابس بوجهه لا ينظر الى المتنبي رغم هذا الإدلال فهّمَت جماعة الشعراء ان تعتدي على المتنبي في حضرة سيف الدولة.. فلما وصل المتنبي الى قوله:

يا أعدل الناس إلا في معاملتي
    فيك الخصام وانت الخصمُ والحكمُ

قال له ابو فراس: حسبك. لقد مسخت قول دعبل الخزاعي:  

ولست أرجو انتصافاً منك ما ذرفت
عيني دموعاً وأنت الخصم والحكمُ

فقال المتنبي:

أعيذها نظراتٍ منك صادقةً
   أن تحسب الشحم ممن شحمه ورمُ

فعلم ابو فراس انه يعنيه فقال: ومن انت يا دعيّ كِندة حتى تأخذ اعراض الأمير في مجلسه!

فاستمر المتنبي ولم يرد إلى ان قال:

سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
         بأنني خير من يسعى به قدمُ
أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي
        وأسمعت كلماتي من به صممُ

فزاد ذلك ابا فراس غيضاً وقال: قد سرقت هذه ايضاً من عمرو بن عروة بن العبد حيث يقول: 

أوضحت من طرق الآداب ما اشتكلت
دهراً وأظهرت إغراباً وإيداعا
حتى فتحت بإعجاز خصصت به
للعمي والصم أبصاراً وأسماعا

فلم يكترث المتنبي واستمر وهم في ذهول:

الخيل والليل والبيداء تعرفني
   والسيف والرمح والقرطاس والقلم

قال ابو فراس: وماذا ابقيت للأمير إذا وضعت نفسك بكل هذا تمدح الأمير بما سرقته من كلام غيرك وتأخذ جوائز الأمير..  أما سرقت هذا من الهيثم بن الاسود النخعي الذي قال:

انا ابن الفلا والطعن والضرب والسرى
وجرد المذاكي والقنا والقواضب

فقال المتنبي:

وما انتفاع اخي الدنيا بناظره
      إذا استوت عنده الأنوار والظُلمُ

فقال ابو فراس وهذا سرقته من قول معقل العجلي:

إذا لم أميّز بين نور وظلمة
بعيني فالعينين زورٌ وباطل

وضجر سيف الدولة من كثرة مناقشته في هذه القصيدة وكثر دعاويه فيها فضربه بالدواة التي بين يديه فقال المتنبي:

إن كان سَركمُ ما قال حاسدنا
         فما لجرحٍ إذا أرضاكمُ ألمُ

فقال ابو فراس: وهذا أخذته من قول بشار:

إذا رضيتم بأن نجفى وسركمُ
قول الوشاة فلا شكوى ولا ضجرا

فلم يلتفت سيف الدولة الى ما قاله ابو فراس وأعجبه بيت المتنبي ورضي عنه في الحال وأدناه اليه وقبّل رأسه وأجازه ألف دينار ثم أردفها بألفٍ أخرى
 [ هذه المواجهة بين المتنبي وابي فراس منقولة بتصرف من حاشية الجزء الثاني لديوان المتنبي شرح ناصيف اليازجي].
 

في صباح عيد الاضحى سنة 953 ميلادية ارتصت السرايا في ميدان حلب وظهر سيف الدولة والمتنبي رأساً برأس على فرسين متقابلين وأنشده قصيدته الشهيرة امام كبار الأعيان والحشود العظيمة:

لكل امرىء من دهره ما تعودا
  وعادة سيف الدولة الطعن في العدى
وان يكذب الارجاف عنه بضده
   ويمسي بما تنوي أعاديه أسعدا
ورب مريد ضرّه ضرّ نفسه
  وهادٍ إليه الجيش أهدى وما هدى
ومستكبرٍ لم يعرف الله ساعةً
    رأى سيفه في كفه فتَشَهّدا

هو البحر غُص فيه إذا كان ساكناً
    على الدُّر واحذرهُ إذا كان مُزبِدا

فإني رأيتُ البحر يعصف بالفتى
     وهذا الذي يأتي الفتى متعمدا

تظل ملوك الأرض خاشعة له
         تفارقه هلكى وتلقاه سُجّدا
وتحيي له المال الصوارم والقنا
     ويقتل ما تحيي التبسم والجدا

ذكيٌّ تظنّيهِ طليعة عينهِ
     يرى قلبه في يومه ما ترى غدا

الى ان يقول:

وكل امرىءٍ في الشرق والغرب بعده
     تسلم له ثوباً من الشعر أسودا
هنيئاً لك العيد الذي أنت عيدهُ
     وعيدٌ لمن سمّى وضحّى وعيّدا
...........
..............
ومن يجعلِ الضرغام للصيد بازهُ
          تصيدهُ الضرغام فيما تصيّدا
رأيتك محض الحلم في محض قُدرةٍ
      ولو شئت كان الحِلم منك المهندا
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم
       ومن لك بالحرّ الذي يحفظ اليدا
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
          وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
  مضرٌ كوضع السيف في موضع النّدى

ولكن تفوق الناس رأياً وحكمةً
         كما فقتهم حالاً ونفساً ومحتِدا

أزل حسد الحسّاد عني بكبتهم
        فأنت الذي صيّرتهم ليّ حُسّدا
إذا شدّ زندي حُسن رأيك فيهمُ
      ضربتُ بسيفٍ يقطع الهام مُغمدا

وما الدهر إلا من رواة قصائدي
     إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسيرُ مشمِّراً
      وغنى به من لا يغني مغرِّدا
أجزني إذا أنشدتُ شعراً فإنما
      بشعري أتاك المادحون مردَّدا
ودع كل صوتٍ غير صوتي فإني
     أنا الطائر المحكيُّ والآخر الصّدى
.....

وقيّدتُ نفسي في ذراك محبةً
        ومن وجد الإحسان قيداً تقيَّدا
إذا سأل الإنسان أيامه الغنى
       وكنت على بُعدٍ جعلتك موعدا