|    English   |    [email protected]

مأرب وصناعة القدر والتحولات

الاثنين 28 أكتوبر 2024 |منذ يوم
محمد نبراس العميسي

محمد نبراس العميسي

بما أننا في أجمل الشهور، تلك الّتي تعبق بمسك الكرامة، حرياً بأن نتوقف عند مدينة تم طمرها بطريقة مدروسة وبترتيب مسبق، وبفعل فاعل تحت الركام والتشويه والشيطنة، مدينة سامية، قديسة، أصيلة ذا تأريخ ضارب جذوره في أغوار التأريخ. 
من الّذي أعاد اليمنيين إلى سكة الحلم والأمل والانتظار بأن يستعيدوا دولتهم من بين أيدي عصابة إيران، من الذي بصرّهم دروبهم صوب حمل البندقية واتخاذ خيار المقاومة، من الذي جعل اليمنيين بهذا التوقد الثوري يقسمون على تحرير الوطن مهما بلغت التضحيات، ومهما ارتفع منسوب النزف. 

طبعاً السر يكمن في مأرب، هذه المدينة المحاطة بالرمل من كلّ جانب، ذات الجبال الّتي اسودت بفعل تأجج وغليان البراكين في باطن الأرض، بحسب علماء الجيولوجيا، هذه المدينّة ستدخل التأريخ كأسطورة، وتُقدّم للأجيال كحصن طراودة، لجأ إليها الثوار متخذين منها قاعدة انطلاق لاستعادة الجمهورية، والعدالة الاجتماعية والمساواة، وحقوق الإنسان اليمني من بين أنياب نظام الكهنوت المُختزل في بيت آل حميد الدين. 

انتصرت ثورة السادس والعشرون من سبتمبر وولى نظام الكهنة والإمامة، وبُشرت اليمن بعهد جديد، هذا العهد الجديد الذي يكاد يخلو من صوت الأئمة لم يكن ليحدث لولا بوادر وخيار مأرب في المقاومة والرفض. 
هكذا وبهذه الصورة المختصرة كان لمأرب الدور الأكبر والأبرز في ثورة السادس والعشرين من سبتمبر. 

بعد أن استتب الحكم للنظام الجمهوري القائم على أنقاض الإمامة، بدا الخواء والتآكل والصراعات البينية بين الصف الجمهوري الواحد، وطيلة العهود الجمهورية الثلاثة والصراع والحرب الباردة تفتك بالجمهورية، ناهيك عن مجابهة تصعيد حركة الكفاح المسلح في جنوب البلاد ووسط البلاد. 
هذا المعطيات من الصراعات البينية، هي الّذي مهد للإماميين الجدد بأن يحلموا بالعودة مجدداً، وبالفعل بدا نشاطهم الخفي بالظهور للعلن من جديد، واستمروا على هذه الوتيرة المتسارعة إلى أن اسقطوا اليمن الشمالي في صيف عام2014م، وحاولوا الإنتشار إلى كل اليمن. 

لكنْ مأرب تظهر مجدداً، تنهض كطائر العنقاء، تقف عند النقطة الفاصلة بين حياتين، الحياة الأولى ماتراهن عليه الإمامة الجديدة، والحياة الثانية مايريده اليمنيون، مايطلبوه من خيارات للعيش الكريم، أحراراً في أوطانهم، مستقلين لايمسهم الضيم، ولايخافون من الأغلال والقيود. 


قُدّر لمأرب مالم يُقدر لسواها من المُدّن، وهبها الله امتياز خاص جعلها أيقونة نضال وسارية تضيء طريق الشعب نحو الخلاص، نحو التحرر والانعتاق، نحو المستقبل المأمول، ووطن لكل الناس دون أن تخرج فئة من الشواذ تُصنّف نفسها في الأعلى وترى الأخرون مجرد بيادق وكائنات هامشية لاتتجاوز الظل، ولاتستطيع أن تخرج من صندوقها وقوقعتها. 
 
وأنت تمرّ على أسماء المدن، حتماً سيستوقفك اسم مدينّة ما، يستوقفك ليريك حقيقتها بتأريخها الطويل، وبآثارها الّتي تحدث الباقين حكايا الراحلين، وبطولاتها الجسام الّتي أصابتها نفحة من الخلود. 
وفي لحظات التحوّل في السيروة تظهر هذه المدن كمبشر بعهد جديد، على تلك المواصفات جميعها بدت مأرب. 

في التاريخ البعيد كانت مأرب حاضرة تعاين كلّ حدث وتساهم في صناعة كلّ قرار جمعي وأممي، وتبني مسار عالمي خارج القطر والفجاج والحد. من الأزل وهي مرتسمة على الطاولة، تعد المعادلة، وتصيغ اللعبة، وتحصد النتيجة وتكتب المخرجات، وتنهي الجدل. 

ظلت مهمتها كذلك في التاريخ الحديث، لم تتوارى، لم تخجل، لم تحجم، لم تتراجع، لم تتوقف بل ظلت تغذ السير حتى يرى موكب النور هداه وموكب التحرير وجهته الآمنة. 

يُقال بأن التاريخ يتسلسل بمنهجية، يمضي إلى وجهته دون أن يغير في منهجيته شيء، حيث أرومته الأولى هي الثابتة رغم التغيير الّذي يطفى على الكوكب، ثابتة ومنسربة رغم تقادم العصور وذهابها، ورغم رحيل أجيال وبقاء وميلاد أجيالٍ أخرى. 
كذلك هو تاريخ مأرب، حضارة سبأ وحمير وبلقيس والمجد الأشم، عراقة السد وتدفقه بالماء الّذي يمد الحقول بماء الحياة، صحراءها والقيظ، حكمة ونباهة من تداولوا حكمها وبأس أبناءها الشديد. 

ما إن بدأت تباشير السلام تلوّح في الأفق، حتّى وقفت كالممسوس عند اسم مأرب، معجزة الله الخالدة، أرض أحبابه الصالحين، سور عتيق يحف جانبيه الموت والرضى، الموت لمن بيّت في نيته السوء، والرضى لمن فعل عكس ذلك. 
بقدر ماهي مستأسدة بقدر ماهي حنون، بقدر ما تنضح بالموت الزؤام بقدر ماهي تبعث الحياة. وقفتك من يحدد ذلك وأنت صاحب الخيار. 
القادمون من البلاد البعيد، ممن انطوت أنفسهم على الشر، يرونها سرداب يفضي إلى الجحيم، فيما الساكنين بين جناحيها يرونها جنةٍ عدن مفتوحة الأبواب، تستقبلك بأحضانها وروحها وأمومتها الطافحة وتغنجها اللطيف ودلالها
الشفيف. 

شكرًا مأرب خيمة وعرش وكثبان وسد، شكرًا مأرب حضارة ناصعة وبطل قدم من زمان الأساطير، شكرًا سلطان متوّج على عرش المجد والفؤاد..شكرًا لأولئك الأطهار، المهاجرون بأفكار الحياة والمحبة والمستقبل والسلام، من يحملون الرسالة مشاعل وهدى ونور ورياحين، من ينوبون عن ملائكة الله في أرضه.