|    English   |    [email protected]

تقرير | الأطفال حلقتها الأضعف.. “برّان برس” يسلط الضوء على مأساة النازحين في مخيّم “سناح” بالضالع ومعاناتهم المتداخلة

الأحد 1 يونيو 2025 |منذ يوم
تقرير | الأطفال حلقتها الأضعف.. “برّان برس” يسلط الضوء على مأساة النازحين في مخيّم “سناح” بالضالع ومعاناتهم المتداخلة تقرير | الأطفال حلقتها الأضعف.. “برّان برس” يسلط الضوء على مأساة النازحين في مخيّم “سناح” بالضالع ومعاناتهم المتداخلة

أعد التقرير لـ"بران برس" - عبدالرقيب اليعيسي:

مع بزوغ فجر كل يوم، يستيقظ الطفل اليمني علي عبدالله، البالغ من العمر 15 عامًا، لا ليذهب إلى المدرسة، وإنما ليشد الرحال إلى مزارع القات، التي يعمل فيها حتى الواحدة ظهرًا.

كان “علي”، قد نزح مع عائلته من قريتهم بمناطق الصراع في مديرية مريس بمحافظة الضالع (جنوبي اليمن)، ليستقروا في مبانٍ حكومية غير مكتملة في منطقة سناح بذات المحافظة.

المباني التي لجأوا إليها عبارة عن هياكل خرسانية لـ14 مبنى من عدّة طوابق. ورغم افتقارها لأدنى معايير السكن ومقومات الحياة، إلا أنها باتت ملاذًا أخيرًا لمئات الأسر التي فرّت من جحيم الحرب.

مسؤول التقارير في الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين بالضالع، محمد الصلاحي، قال لـ"بران برس"، إن هذه المباني شُيدت في عهد النظام السابق ضمن مشروع مدينة سكنية، إلا أن العمل توقف فيها مطلع العقد الماضي، دون استكمال التشطيبات أو التبويب من قبل الجهات المعنية.

معد التقرير زار المخيم لاستطلاع أوضاع الأسر النازحة في هذه المباني، ليجد هناك معاناة بالغة القسوة تعيشها تلك الأسر، خصوصًا مع انقطاع المساعدات التي كانت تقدمها لهم المنظمات الإغاثية، وهو ما انعكس سلبًا على الأطفال.

فبعد توقف دعم المنظمات لعائلته العام الماضي، اضطر “علي” لترك مقاعد الدراسة والانخراط في العمل لإعالة أسرته وتأمين “القات” لوالده. ولاحقًا، أشرك والده شقيقه الأصغر، البالغ من العمر 13 عاماً، في نفس العمل.

يقول “علي” في حديثه لـ“بران برس”: “صرت أبزّغ مع الرعية أو المقاوتة كي أوفر تخزينة أبي ومصاريف البيت”. ورغم قسوة الظروف، لا زال يأمل بالعودة للمدرسة مع شقيقه قائلًا: “أتمنى نرجع ندرس، وما نضيع وسط شجرة القات”.

قصّة “علي” وشقيقه، تجسّد واقع الأطفال في اليمن، وبالأخص العالقين مع عائلاتهم داخل هذه المباني الخرسانية، وفي مخيمات النزوح المتناثرة في مختلف مناطق اليمن جراء الحرب الدائرة في البلاد منذ اجتياح جماعة الحوثي المصنفة في قوائم الإرهاب للعاصمة صنعاء أواخر العام 2014م.

جذور التسرّب

لكون هذه المباني غير مكتملة البناء، اضطرت كل أسرة نازحة لأن تقوم بإصلاحات ذاتية في الشقّة التي تسكنها ضمن المبنى، ومنها صناعة أبواب خشبية وتغطية النوافذ بستائر قماشية. كما أن جميع الأسر تضطر لجلب المياه من آبار بعيدة، بعد انقطاع المياه التي كانت توفرها لهم المنظمات ضمن حزمة المساعدات الأساسية.

هذه الظروف القاسية، أثّرت سلبًا على حياة الأطفال النازحين، فبينما دفعت بالعديد منهم إلى ترك الدراسة والبحث عن عمل، قذفت بآخرين للتجنيد لتأمين لقمة العيش لعائلاتهم في ظل الفقر والغلاء وانقطاع المعونات.

“صالح” (اسم مستعار)، طفل يبلغ من العمر 17 عاماً، وواحد من الأطفال الذين اضطروا للتوقف عن الذهاب إلى المدرسة بعد نزوحه مع عائلته من إحدى القرى الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي المدعومة إيرانيًا، والقريبة من خطوط التماس.

يقول “صالح” في حديث لـ“بران برس”، إنه انضم إلى السلك العسكري لتأمين احتياجات أسرته التي فقدت كل شيء جراء الحرب والنزوح. وأضاف: “لو أني في قريتي لكنت أدرس؛ لأن المدرسة كانت قريبة، واحتياجاتنا متوفرة من مزارعنا”. 

يمضي الطفل في حديثه وملامح الألم والانكسار على وجهة قائلاً: "أنا مضطر للاستمرار في العسكرة كي لا أخسر راتبي الذي أعيل به أسرتي بعد خسارتنا لأرضنا ومنزلنا الذي دمره الحوثيون”.

ملاجئ خطرة

لا تقتصر المخاطر التي تهدد هؤلاء الأطفال على العوامل الخارجية كترك المدارس والتجنيد، بل تشمل مخاطر داخل هذه المباني غير المهيّئة للسكن، حيث يواجهون فيها مخاطر يومية تعرّض حياتهم وصحتهم للخطر. ومنها حوادث السقوط المأساوية من النوافذ المفتوحة والشرفات غير المؤمنة كما حدث للطفل عبدالفتاح (8 سنوات).

تقول “أم عبدالفتاح”، وهي نازحة من قرية “يعيس” بمنطقة “الصرع” في “مريس”، إن ابنها سقط قبل ثلاث سنوات من شرفة الطابق الخامس للمبنى الذي تسكنه مع أطفالها. وكان ذلك قبل أن تقوم إحدى المنظمات بتركيب شبابيك على الشرفات، حيث كان الأطفال في المباني معرضون لخطر السقوط. 

ورغم أن “عبدالفتاح”، نجا من الموت بـ“أعجوبة” كما تقول والدته لـ“بران برس”، إلا أنه تعرض لكسور في الفخذ والحوض واليد اليمنى، وأيضًا إصابة في مقدمة رأسه. وأرجعت والدته نجاته إلى سقوطه على تربة رطبة خففت شدّة الارتطام.

ورغم نجاته من الموت، إلا أن آثار السقوط لا تزال واضحة عليه. حيث تؤكد والدته أنه يعاني اختلالًا في التوازن عند المشي، إضافة إلى إصابته المتكررة بالأمراض.

وفقًا لأم عبدالفتاح، فإن حوادث سقوط الأطفال لا تزال مستمرة رغم تشبيك الشرفات. مضيفة أن النوافذ، والأسطح، والسلالم، وفتحات الصرف الصحي، وحفر البيارات المحيطة بالمباني، جميعها تشكّل خطرًا على الأطفال. مؤكدة أن تلك المباني التي تكتظ بالعديد من الأسر النازحة، غير صالحة للسكن.

أسر أخرى نازحة أكّدت لـ“بران برس”، أنه رغم تدخل منظمات المجتمع المدني لتشبيك بعض النوافذ، إلا أن العديد منها ما تزال مفتوحة وتعرّض الأطفال لخطر السقوط من الطوابق العليا، وتشكّل إلى جانب السطوح والشرفات والأماكن المكشوفة تهديدًا مستمرًا للأطفال.

معاناة متداخلة

في هذه البيئة الصعبة، تبرز حالة النازح “محمد الضبياني”، وهو خمسيني يعيش مع زوجته وبناته الثلاث وولديه، كنموذج للمعاناة الشديدة التي تقاسيها مئات الأسر النازحة داخل المباني السكنية الهيكلية بمدينة سناح.

يقول “الضبياني”، في حديث لـ“بران برس”، إن معاناته بدأت مع إصابة بالغة تعرّض لها في عموده الفقري جراء عيار ناري أطلقه الحوثيون عليه في قريته “بلاد الحيقي” بداية الحرب، والتي أفقدته القدرة على الحركة دون الاستعانة بالعصي. إضافة إلى معاناته من سلس البول، مما اضطره لاستخدام الحفاضات والعلاجات بشكل دائم.

وذكر أن إصابته تتطلب كميات كبيرة من الأدوية لتخفيف الألم، وهو ما يصعب تأمينه في ظل الظروف المعيشية الراهنة. مضيفًا أن معاناته ازدادت بعد توقف المنظمات عن تقديم الاحتياجات الأساسية للنازحين.

يقيم “الضبياني”، وأسرته في شقة بأحد المباني السكنية. ورغم أنه أجرى عليها إصلاحات بسيطة كبقيّة النازحين، إلا أنها أكثر عرضة للتلوث؛ لأنها تقع في الدور الأول، ويحيط بها “بيارات” ممتلئة بمياه الصرف الصحي. وغالباً ما تطفح المياه الملوثة إلى داخلها كون غرفة تفتيش شبكة الصرف الصحي غير المؤهلة تقع باب شقته مباشرة.

بأسى عميق، اختتم “الضبياني”، حديثه لـ“بران برس”، بالتأكيد على أنه يعاني في جميع الأحوال، لا سيما أن أبناءه في سن لا يسمح لهم الالتحاق بالجيش، حيث يرى أن “العسكرة أصبحت الحل الوحيد للنازح كي يوفر قوت يومه”.

بيئة موبوءة

وطبقًا لأحاديث نازحين لـ“بران برس”، فإن التجمع السكني يفتقر إلى شبكات الصرف الصحي، كما يحيط به حفر مكشوفة مليئة بمياه المجاري، وهو ما يفاقم الأوضاع الصحية والبيئية ويعرض الساكنين فيها للأمراض والأوبئة.

حول هذا، يقول الدكتور محمد الحميدي، أخصائي طب الأطفال في مستشفى التعاون بمدينة سناح، لـ“بران برس”، إن أكثر الأمراض التي تُسجَّل بين النازحين في تلك المباني هي الحميات والأمراض الجلدية والإسهالات. 

“الحميدي” أرجع سبب ذلك إلى “التلوث الناتج من حفر الصرف الصحي المنتشرة حول تلك المباني”، والتي قال إنها تؤدي إلى انتشار الحشرات الناقلة للأمراض، وخصوصًا البعوض. 

وقال إن ارتفاع درجة الحرارة خلال الصيف فاقم من انتشار الحميات والأمراض الجلدية. مشيرًا إلى أن هذه الظواهر تُعتبر “خطرة، وقد تُهدد حياة الأطفال بشكل خاص، إضافة إلى كبار السن والنساء الحوامل”.

وناشد الدكتور الحميدي، السلطات المحلية ومنظمات المجتمع المدني ضرورة التدخل العاجل لمعالجة مشكلة تلوث الصرف الصحي، والعمل على إنشاء شبكات آمنة للحد من انتشار الأوبئة والحميات وغيرها من الأمراض.

غياب التدخلات

تضم المباني السكنية الهيكلية قرابة 400 أسرة نازحة. ووفق نشوان الحراني، وهو نازح من مناطق الصراع في الفاخر، ويعمل مندوبًا للنازحين بهذه المباني، فإن جميع الأسر النازحة تعاني نقصًا حادًا في المياه والغذاء. 

يقول “الحراني” في حديث لـ“بران برس”، إن الأوضاع المعيشية للنازحين تدهورت بشكل كبير بعد توقف دعم المنظمات الإنسانية. وذكر أنه رفع العديد من التقارير والمناشدات التي طالب فيها المنظمات بالتدخل العاجل لإنقاذهم.

ويضيف أن “أوضاع النازحين تتدهور يومًا بعد آخر في ظل تفشي الأمراض جراء التلوث البيئي، وتلوث مياه الصرف الصحي، فضلًا عن عدم صلاحية المباني المكشوفة من جميع الجهات” . مؤكدًا أنها “لا تصلح للعيش الآدمي رغم الإصلاحات الذاتية البسيطة”. 

وطبقًا للحراني، فإن غياب التدخلات الإنسانية أثّر بشكل مباشر على مستقبل الأطفال النازحين، ودفع بالكثير منهم لترك الدراسة والعمل في سن مبكر. مؤكدًا أن “العسكرة” باتت خيارًا وحيدًا أمام النازحين لتأمين حاجاتهم.

عن بداية النزوح بمنطقة سناح، أوضح المسؤول بالوحدة التنفيذية، محمد الصلاحي، أن تزايد أعداد النازحين وتفاقم أزمة السكن وارتفاع الإيجارات دفع مئات الأسر للبحث عن مأوى بديل فاتجهت منذ مطلع العام 2020، إلى تلك المباني غير المكتملة، والتي قال إنها باتت اليوم مكتظة بالنازحين، وتفتقر لأبسط مقومات العيش الكريم.

ومنذ عامين، قال “الصلاحي” لـ“بران برس” إن منظمات المجتمع المدني أوقفت أنشطتها الإنسانية بسبب تراجع تمويلات المانحين الدوليين، لاسيما بعد الإعلان عن الهدنة الإنسانية في أبريل/نيسان 2022، مما فاقم معاناة الأسر النازحة. 

وعن دور السلطة المحلية، قال “إنها لا تمتلك أي إمكانيات للقيام بأعمال إغاثية، ويقتصر دورها على تقييم احتياجات النازحين ورفعها للمنظمات، إلى جانب تسهيل عمل المنظمات الدولية والإنسانية في المحافظة”.

المندوب السابق للنازحين بمدينة سناح، صالح العودي، أكد هو الآخر لـ“بران برس”، أن التدخلات الإنسانية توقفت في المنطقة منذ عامين، مما انعكس سلباً على وضع النازحين، موضحًا أنها كانت فاعلة سابقًا، وشملت توفير المياه والغذاء والتعليم والملابس وغيرها من الاحتياجات الأساسية.

ومن تداعيات هذا التراجع، وفق العودي، تسرب نحو 300 طفل من أصل ألفي طفل نازح في المباني السكنية، موضحًا أن بعضهم توجه نحو سوق العمل، بينما انخرط آخرون في أنشطة عسكرية، في ظل غياب أي برامج حماية أو دعم نفسي وتعليمي للأطفال.

النزوح في الضالع

شهدت الضالع تصاعدًا في موجات النزوح منذ اجتياح الحوثيين للمحافظة عام 2015، وما تلاها من مواجهات بين المقاومة الشعبية ومسلحي الجماعة الحوثية، والتي رافقها غارات جوية للتحالف العربي، حيث اضطرّت العديد من الأسر إلى النزوح بعيدًا عن الصراع، وفق المسؤول في الوحدة التنفيذية محمد الصلاحي.

ومطلع العام 2019، قال الصلاحي، إن المحافظة شهدت موجة نزوح داخلية كبيرة بعد توسع رقعة الحرب، خصوصاً في مديريات دمت، وقعطبة، والحشاء، وجبن، موضحًا أن النازحين تركّزوا في المناطق المحررة من الحوثيين بمديريتي قعطبة والضالع، إضافة إلى استقبال نازحين من محافظات أخرى مثل تعز والحديدة وإب. 

وإجمالًا، قال إن عدد النازحين في محافظة الضالع، يتجاوز 9 آلاف أسرة، تضم أكثر من 63 ألف شخص، موزعين على 30 مخيم نزوح رئيسي، وأكثر من 230 منطقة وتجمع ضمن مناطق المجتمع المضيف.

مواضيع ذات صلة